رؤية أستشرافية حول : جنون السياسة يدفع الشرق الأوسط نحو هاوية جديدة والعراق في قلب العاصفة .؟
بقلم : طه حسن الأركوازي
في خضم التوترات المتصاعدة التي تعصف بالشرق الأوسط تتعالى أصوات تحذيرية من داخل إسرائيل ذاتها تلقي بظلالها الثقيلة على المشهد الإقليمي المتشابك فما صرّح به الصحفي الإسرائيلي المخضرم “رون بن يشاي” في صحيفة يديعوت أحرونوت عن وصف حكومة بلاده “بالمجنونة” لم يكن مجرّد تعبير عن أمتعاض بل هو صرخة أستشرافية تنذر بمستقبل أكثر قتامة إذا ما أستمرت هذه السياسات المتهورة على ذات المسار وهذا الوصف يعيد إلى الواجهة الحاجة لقراءة المشهد بعمق وتفكيك دوافع هذه السياسات وأنعكاساتها المحتملة على المنطقة برمتها بما في ذلك العراق الذي يظل من أكثر الدول عرضة للارتداد المباشر لأي صراع إقليمي جديد .
وصف “بن يشاي” لحكومة بلاده “بالمجنونة” رغم حدّته يُعبّر عن قلق متزايد بين بعض نخب إسرائيل من أن ما يجري لم يعد سياسة مدروسة بل مغامرة بلا أفق قد تنزلق بالمنطقة نحو فوضى شاملة ، فالحكومة الحالية بقيادة “بنيامين نتنياهو” تبدو وكأنها أسيرة لعدة دوافع في مقدمتها الهروب إلى الأمام عبر الأزمات “فنتنياهو” المحاصر بملفات فساد بات يراهن على صناعة الأزمات كأداة للبقاء السياسي ويدفع الشارع الإسرائيلي نحو خطاب الخوف والتعبئة ليضمن أصطفاف قاعدة أنتخابية خلفه من المُتشددين ، كما أن لهجة التطرف الأيديولوجي بات السمة الأبرز حيث تسيطر على الحكومة أجنحة يمينية متطرفة ترفض أي تسويات أو تنازلات مع الفلسطينيين وتُؤمن بأن القوة وحدها تحمي إسرائيل من محيط معادٍ أما التحريض المستمر على العنف والصراع فهو حاضر بقوة عبر تكريس خطاب يقوم على فكرة الحرب الوجودية مما يغذي مشاعر التطرف ويعيد المنطقة إلى مربع الاحتراب المفتوح .؟
هذه السياسات المدفوعة بتشابك المصالح بين الأمني ، والسياسي ، والأيديولوجي جعلت إسرائيل لاعباً متهوراً يحرّك أوراق الصراع لا لإيجاد حلول بل لإدامة الأزمة من أجل البقاء في السلطة وهو ما لا يمكن فصله عن السياق الإقليمي الأوسع حيث تتقاطع مشاريع النفوذ بين واشنطن وطهران وأنقرة وموسكو وبكين بينما تظل المنطقة في حالة فراغ أمني مفتوح على احتمالات خطرة .
إنعكاسات هذه السياسات لا تقف عند حدود الداخل الإسرائيلي بل تمتد بسمومها إلى عموم المنطقة العراق الخارج من عقود طويلة من الاحتلال والحروب والحصار والإرهاب يجد نفسه اليوم على تماس مباشر مع محاور الصراع وأي تصعيد عسكري واسع بين إيران وإسرائيل ، أو بين إسرائيل وأذرع محور المقاومة سيترك أثره فوراً في العراق ليس فقط عبر زعزعة الأمن الهش بل أيضاً عبر تنشيط الفصائل المسلحة سواء بدوافع دعم المحور أو أستغلالاً لحالة الفوضى الإقليمية كما أن تأجيج التوتر الداخلي سيعود إلى الواجهة مجدداً تحت شعارات المواجهة الكبرى وبالتزامن فإن أي إضطراب في أسواق الطاقة أو تهديد طرق التجارة الإقليمية سيُلقي بظلاله الثقيلة على أقتصاد العراق الذي يعتمد بنسبة كبيرة على النفط .
الأهم من ذلك أن أستمرار الصراع في محيط العراق وتأجيج مشاعر الغضب والاحتقان سيُعيد توفير بيئة خصبة لنمو الجماعات المتطرفة التي تجد في الفوضى فرصة دائمة للتمدد لا سيما في بيئات مأزومة سياسياً وأقتصادياً مثل العراق الذي لا يزال نسيجه الاجتماعي هشاً أمام كل موجة اضطراب جديدة .
التقارير الصادرة عن مراكز القرار الدولي مثل مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي ومعهد ستراتفور للاستخبارات الجيوسياسية والمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية تتوقع أن الشرق الأوسط يسير نحو أحد سيناريوهين رئيسيين :
الأول : أنفجار شامل عبر الأزمات المتراكمة فلو واصلت حكومة إسرائيل الحالية التصعيد فإن المنطقة ستنحدر نحو موجة صراع أوسع تشمل الجبهات اللبنانية والسورية وربما العراقية واليمنية بالتزامن مع أشتداد الضغط الإيراني ، وهذا الانفجار سيفتح الأبواب أمام حروب بالوكالة تتداخل فيها أطراف دولية وأزمات أقتصادية خانقة وأضطرابات في سلاسل الطاقة وعودة الإرهاب بقوة في ساحات رخوة كالعراق وسوريا .
ثانياً : زيادة الضغوط الدولية لفرض التهدئة فهناك إدراك متزايد لدى واشنطن وأوروبا بأن أستمرار هذه السياسات يهدد مصالحهما المباشرة لا سيما في أمن الطاقة وخطوط الملاحة ، وبالتالي تتحدث أغلب التقديرات عن أحتمالية تصاعد الضغوط على إسرائيل لتفادي حرب شاملة قد تُضر بمصالح الغرب قبل غيره ، وفي هذا السيناريو سيبقى العراق في دائرة التوتر لكنه سيكون بمنأى عن الانزلاق إلى ساحة مواجهة مفتوحة ، بالمقابل سيُتاح له فرصة إعادة ترتيب أوراقه شريطة ألا يبقى أسير التبعية لمحور أو وصاية إقليمية .؟
ليس من المبالغة القول إن العراق الآن أمام مفترق طرق تاريخي ففي بيئة إقليمية مُتقلبة ومفتوحة على الاحتمالات الأسوأ النجاة لا تكون بالحياد السلبي بل بصناعة خيار وطني رشيد يقوم على تحصين الداخل أمنياً ، وسياسياً عبر إنهاء الانقسام الطائفي ، وإعادة هيكلة القرار السيادي ، وتنويع العلاقات الخارجية بحكمة ، والابتعاد عن الارتهان لمحور بعينه ، وتحقيق إصلاحات إقتصادية تخفف من الاعتماد المفرط على النفط .
أخيراً وليس آخراً .. إن مستقبل العراق لن يصنعه الخارج بل يبدأ بقرارات داخلية تعي أن السيادة الوطنية لا تعني الانعزال بل التوازن الذكي في وسط بحر هائج ، وإن الشرق الأوسط يتجه إلى مرحلة لا تُحكم بالعقلانية ، ولا بمصالح الشعوب ، بل بالصراعات المؤدلجة والتطرف السياسي والعراق بحكم الجغرافيا والتاريخ سيكون دائماً في قلب هذه المعادلات ، لكنه يمتلك فرصة نادرة الآن ليعيد تعريف موقعه عبر تجنيب نفسه محرقة الصراعات وأستخدام علاقاته الإقليمية والدولية لتحقيق مكاسب تنموية وأمنية وإعلاء منطق الدولة على منطق المحاور والرهان على بناء علاقات متوازنة مع الجميع ، ما يُسمى بالجنون السياسي في المنطقة سيظل ينتج فوضى مستمرة ما لم تُواجهه إرادات وطنية تعرف أن الاستقرار ليس هبة من الخارج ، بل قرار داخلي يصنعه العقل ، لا السلاح .؟
ويبقى السؤال الذي يجب أن يواجهه العراقيون قبل غيرهم هل ننتظر أن تفرض علينا المنطقة مصيرنا مجدداً أم نصنع خياراتنا بأنفسنا قبل فوات الأوان …!