قراءة في الهواء الطلق: “بين المدبّرين وصمت الأكفاء”

بقلم: حسن عبد الهادي العگيلي

في أعقاب التحولات التي شهدها العراق بعد عام 2003، أطلّت علينا نماذج إدارية جديدة، لا تُشبه إرث الوزارات العريقة، ولا تنتمي إلى تقاليد الإدارة الرصينة التي تُعلي من شأن الكفاءة والنزاهة.

أحد هؤلاء المدراء الذين تسنموا مواقع القرار في وزارة تُعدّ من ركائز التخطيط وبناء الإنسان، كان نموذجًا للخلط العجيب بين العبثية والمصلحة.

لقد قرّب هذا المدير من هم أبعد ما يكونون عن الاستقامة، وعن الذوق العام، بل وعن التفكير نفسه، واكتفى بضمّ من وصفهم لاحقًا بـ”المطايا المدبرين”.
وحين سأله أحد أصدقائه عن سبب اختياره لهم رغم علمه بضحالة فكرهم وضيق أفقهم، أجاب بكل برود:
“أنا أعلم أنهم مطايا… ولكنهم مدبرين، أينما أرسلتهم يأتون بنتيجة!”

هذه النتيجة التي يتحدث عنها – في أغلب الأحيان – لا علاقة لها ببناء الدولة أو خدمة المجتمع، بل هي نتائج شخصية، مؤقتة، تُغذّي شبكة المصالح لا منظومة القيم.

 

تذكرت في هذا السياق مقولة شكسبير الخالدة:

> “كل ما يحتاجه الأشرار للانتصار، هو أن يصمت الأخيار.”

 

وحين يصمت الأكفاء، ويختارون الانكفاء بدعوى العفّة أو النأي عن الصراع، فإنهم – دون أن يشعروا – يُخلون الساحة لأشباه الرجال، لأولئك “المطايا المدبرين” الذين يتسلقون في غياب الضمير والوعي العام.

لقد أدرك العرب هذا الأمر حين قالوا:

> “كلب جوّال خيرٌ من أسد رابض.”

 

فالحركة – وإن كانت بقدرات متواضعة – أفضل من الكفاءة الصامتة العاجزة عن الفعل.
والجمود – كما قال كبار الفلاسفة – هو أصل البلاء، إذ لا تنهض أمة يربض عقلاؤها في الظل، بينما يسود الغوغاء.

إن الجمود ليس حالة عقلية فقط، بل هو تواطؤ غير معلن مع الرداءة. فالذي يمتلك القدرة على التغيير لكنه لا يتحرك، يفتح الأبواب لمن لا يملك من أدوات الإدارة سوى الولاء الأجوف والانتهازية الوقحة.

 

الرسالة واضحة:
لسنا بحاجة إلى مزيد من الصمت النبيل، بل إلى فعلٍ شجاع.
لسنا بحاجة إلى مزيد من الرضا بالغربة داخل الوطن، بل إلى وعيٍ جماعي يفرض الكفاءة ويفضح الابتذال.
ولسنا بحاجة إلى التحسّر على تدهور المؤسسات، بل إلى إصلاحها بأيدٍ نظيفة وعقولٍ تعرف أن الإدارة ليست مغنماً، بل أمانة ثقيلة.

فحين يتحرك الأكفاء، ينكفئ “المدبرون” إلى حيث يجب أن يكونوا: في الهامش، لا في صدارة المشهد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى