هنيئًا للشيعة… لأنهم لم يسقطوا في امتحان السلطان والخنوع للحاكم لا، بل حافظوا على مقاصد الإسلام!

(تحليل داخلي، موجه من سنّي إلى أهل السنّة)

تاريخ الإسلام، كما نرويه في مدارسنا، يبدأ بصراعات العقيدة وينتهي عند المواعظ الفقهية.
لكنه في جوهره، تاريخ صراع على السلطة، لا على الصلاة.
وهذا ما فشلنا في الاعتراف به كسُنّة، بينما الشيعة فهموه مبكرًا، ورفضوه، ولم يغيّروا موقفهم منه حتى تحت السيف.
والنتيجة؟
أننا – كأغلبية سنّية – أنتجنا تراثًا يجعل طاعة الحاكم جزءًا من الإيمان، والسكوت عن الظلم نوعًا من “الحكمة”، والخروج على الحاكم – مهما بلغ ظلمه – فتنةً تبرّر القتل الجماعي.

بينما التشيّع رفض كل هذا.

وهنا تبدأ المفارقة.

حين ننظر ببرود، دون تمجيد أو إنكار، نكتشف أن الشيعة – رغم تعرضهم للتهميش، والقتل، والتشويه، والحرمان من أي سلطة حقيقية – حافظوا على مقاصد الإسلام، أكثر ممّن كانوا في قلب السلطة منذ السقيفة.
لقد احتفظوا بفكرة أساسية:
أن الدين ليس وظيفة في خدمة السلطان.
وأن “الحق” لا يُعرّف بالغلبة، بل بالعدل.
وأن “الشرعية” ليست في السيف، بل في مضمون الحكم، وموقع المظلوم.

هذه ليست عبارات نظرية.

في التراث السنّي، كل شيء بدأ بالشرعية وغرق في الطاعة:
– السقيفة غُلبت بالعدد فصارت “جماعة”.
– بيعة أبي بكر بلا مشورة عامة صارت “أمرًا إلهيًا”.
– يزيد قاتل الحسين صار “أميرًا شرعيًا”، وخصمه – الحسين – “خارجًا على الجماعة”.
– الحجاج بن يوسف – الذي قتل الآلاف وصلب الصحابة – اعتُبر واليًا يُطاع لأنه من قِبَل الخليفة.
– الخليفة الذي يحرق الكعبة أو يجلد المعارضين أو ينهب بيت المال، لا يُعزل. بل يُدعى له على المنابر.

ثم صيغت القاعدة الكبرى: من غلب فهو الخليفة.

وهكذا تم اختزال الإسلام السياسي كاملاً في عبارة واحدة:
الغلبة تؤسّس الشرعية، والطاعة تؤسّس الإيمان.

مَن رفض هذه القاعدة؟
الشيعة.

لم يقبلوا أن يكون معاوية خليفة لأنه غلب.
لم يقبلوا أن يُنسى مقتل الحسين باسم الجماعة.
لم يقبلوا أن يُسبّ عليٌّ 60 سنة على المنابر ويُقال: “تأويل سائغ”.
لم يقبلوا أن تُفرض السلطة باسم القهر، ويُطلب منهم أن يطيعوا باسم العقيدة.

نحن – السنة – قمنا بعكس ذلك.
جعلنا البيعة غلبة، والغلبة مشيئة، والمشيئة قضاءً، والقضاء قدرًا إلهيًا.
وبذلك، استبدلنا ميزان الأخلاق بفقه الاستقرار.
لكن فقه الاستقرار نفسه هو ما أدى إلى كوارثنا السياسية والاجتماعية اليوم:
– صمت مطبق أمام الطغيان.
– تسويغ للفساد باسم الأمن.
– تبرير للقهر باسم “درء الفتنة”.
– قمع كل صوت معارض باعتباره “خروجًا”.

بينما الشيعة، حتى وهم أقلية، بقوا يحتفظون برواية المظلومية.
لم ينسوا أن الحسين قُتل ظلمًا، وأن من قتله ليس “ولي أمر”، بل قاتل يجب أن يُلعن.
بقوا يرون التاريخ من زاوية المظلوم، لا من زاوية المنتصر.
وهذا ليس موقفًا طائفيًا، بل أخلاقيًا.
موقف حافظ على جوهر الإسلام السياسي الأصيل:
أن الحكم ليس حقًا بلا شرط.
وأن من يظلم لا يُطاع.
وأن الساكت عن القاتل لا يبرّئ نفسه بالنوايا.

وهنا أصل المفارقة.

نحن – أهل السنة – لم نخرج من سردية الدولة حتى اليوم.
نصوغ الدين وفقًا لمتطلبات النظام السياسي.
نعيد تفسير العقيدة لنوافق ميزان القوى.
وحين يقتل الحاكم الناس، نتحدث عن صبر أيوب وفتنة الخروج.

بينما الشيعة، حتى وهم مضطهدون، كتبوا تاريخهم من خارج هذه المعادلة.
احتفظوا بسردية تختلف عن سردية السلطة.
لم ينسجموا مع المرويات السلطانية، ولم يعيدوا تأويل القتل ليصير “قدرًا”.
بل حافظوا على المفهوم الأساسي: أن الظلم لا يصبح عدلًا مهما طال الزمن.
وأن الحق لا يُنسى لمجرد أن الباطل كتب كتبًا كثيرة.
لهذا أقول:
هنيئًا للشيعة… لأنهم لم يبرروا ما بررناه، ولم يسكتوا حيث سكتنا.

ليس لأنهم معصومون، ولا لأن تجربتهم خالية من الأخطاء،
بل لأنهم – ببساطة – حافظوا على رفض الظلم كأصل من أصول الدين، لا كمسألة خلافية في الفقه.

نحن، غيّرنا هذا الأصل.
وما زلنا ندفع الثمن.

نعيش في أنظمة تقهر شعوبها باسم “البيعة”.
وتقمع باسم “ولي الأمر”.
وتحكم باسم “الشرعية”، وكأن هذه الشرعية لا تسقط أبدًا مهما سفكت من دماء.

بينما هم – على كل ما يمكن أن يُقال عنهم – لم يُنتجوا فقهًا يقول: “من غلب فهو الخليفة”.
ولم ينسوا فاطمة، ولم يسكتوا عن الحسين، ولم يضعوا يدهم في يد من قتله.

هذه ليست مفاضلة مذهبية.
بل نقد ذاتي صريح لخيانتنا نحن لمقاصد الإسلام.
نحن الذين جعلنا الحكم مقدّسًا ولو كان باطشًا،
بينما هم جعلوا العدالة ركنًا، حتى لو كلّفهم ذلك الإقصاء والدم.

لهذا أقول – بمنتهى المنطق –
هنيئًا للشيعة.
لأنهم لم يسقطوا في المكان الذي سقط فيه الجميع.
لأنهم حافظوا على ما ضيّعناه: أن الحاكم يُحاسَب، وأن الجلاد ليس إمامًا، وأن الكرامة ليست خروجًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى