9 نيسان… حين انهار الجدار ولم تُفتح النوافذ

بقلم _ الدكتور أحمد صدام الساعدي

 

في التاسع من نيسان، سقط تمثال الطاغية صدام حسين العفلقي التكريتي في ساحة الفردوس، وتهاوت معه صروح الزيف، لكن لم تسقط من ذاكرتي جدران الأمن العامة ولا روائح الزنازين، ولا صوت السوط على أجسادنا العارية من أي ذنب سوى أننا أردنا وطنًا لا يحكمه الجلاد.

 

حين اعتُقلت في عام 1989، كنت طالبًا يملأني حلم بمستقبل بسيط، فوجدت نفسي أسيرًا بين جدران الرعب مع إخوتي: محمد صدام ثابت، جمعة عطية فياض، صادق نكدي، سيد فاضل عطية، والنقيب ليث عبد العباس خلف. كنا تحت رحمة جلاوزة نظام لا يعرف الرحمة، سُحقت أحلامنا كما تُسحق عظامنا، وتحوّلت أسئلتنا إلى تهم.

 

رئيسنا في الخلية، كنعان محسن، وقف أمام قاضٍ باع نفسه للنظام، عواد البندر، الذي حكم عليه بالإعدام كأنما يوقع ورقة لا تخص روح إنسان. نُفذ فيه الحكم، ليغدو شهيدًا بين من لا يُذكرون إلا في قلوب من عاش معهم لحظات الخوف والكرامة.

 

أما النقيب ليث عبد العباس خلف، فكان رجلًا يشبه الحكايات التي لا تنتهي، حاول الهرب من قسم الأحكام الخاصة في سجن أبو غريب، كسر القيد وركض نحو الحرية، لكن يد السلطة امتدت إليه. ومنذ ذلك اليوم، لم نره مرة أخرى، لا قبر له، لا أثر، كأن الأرض انشقت وابتلعته، وبقي اسمه يتردد بيننا كلغز ووجع.

 

بين أقبية التحقيق ومهازل القضاء البعثي، ذقنا صنوف العذاب. وما إن صدر الحكم، حتى بدأ فصل جديد من التنكيل، فالضرب لم يتوقف، والسياط لا تميز بين محكوم أو في ذمة التحقيق. كلنا في نظرهم أعداء، وكلنا في الحقيقة كنا مرايا تُرعب وجوههم الكاذبة.

 

أذكر جيدًا الشهيد علي صالح الدريعي، ابن الكوت – منطقة الحي. في شهر رمضان، كنا صائمين، عُزّل، منهكين، عندما اقتادوه أمام أعيننا وأفرغوا في جسده رصاص الحقد. سقط أمامنا ولم نملك سوى الصمت. فما تعوّدنا على الصراخ في حضرة الجلاد، كنا نكتم حتى أنفاسنا لئلا تُحسب علينا.

 

خرجنا من السجن بعد سنوات، لكننا لم نخرج من الخوف. عدنا إلى مدننا كالغرباء، كل شيء تغيّر، لكن النظام بقي في الأرواح، في العيون التي ترقبنا، في ملفات المراقبة، في المآذن التي لم تُسبّح إلا باسم الطاغية.

 

حتى جاء ذلك اليوم الذي حسبناه الفرج، التاسع من نيسان، لحظة سقط فيها النظام على يد جيوش غريبة، لكن الطغيان لم ينتهِ، بل تبدلت وجوهه. خرجت الأفاعي من جحورها، فها هم أتباع النظام وأذنابه شكّلوا تنظيمات وجماعات مسلحة، ونسقوا مع الإرهاب، وتحول العراق إلى ساحة للدم لا تنتهي.

 

لم يكن سقوط البعث نهاية الوجع، بل بداية لكشف الجراح القديمة، لكل من قضى تحت التعذيب، ولكل من ينتظر خبر مفقوده، ولكل من خرج من السجن ليموت في شوارع الانفجارات. لكل هؤلاء نقول: لا ننسى. لا ننسى القهر ولا الجوع ولا التعذيب ولا الأحلام المسروقة. لا ننسى صوت القيود وهي تُسحب على البلاط، لا ننسى صيحات الأمهات عند أبواب السجون، ولا وجوه إخواننا المجاهدين الذين غيّبهم الموت أو الخوف.

 

نحن التاريخ

 

التاسع من نيسان صفحة كُتبت بالدم، لكنها بداية لذاكرة لا تموت. ومن حقنا أن نرويها بأصواتنا، لا بأقلام المحايدين. نحن الشهود، نحن الذين رأينا، ولسنا بحاجة إلى من يكتب التاريخ نيابة عنا. نحن التاريخ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى