طريق التنمية.. شراكة مجتمعية لتحقيق التكامل الاقتصادي

كنوز ميديا _ متابعة

في تحول نوعي يشير إلى تغيير تدريجي في فلسفة إدارة الاقتصاد الوطني، تم تأسيس شركة مساهمة عامة تُعنى بإدارة مشروع طريق التنمية، على أن تُطرح أسهم هذه الشركة للاكتتاب العام أمام المواطنين والشركات المحلية والدولية. هذه الخطوة لم تأتِ كمجرد إجراء تنظيمي، بل تعكس مقاربة جديدة تتجاوز النمط التقليدي القائم على تمويل الدولة الكامل للمشاريع الكبرى، نحو نموذج تشاركي يعزز مفهوم الملكية المجتمعية للمشاريع الستراتيجية، ويحفّز السيولة الراكدة في الاقتصاد المحلي عبر إشراك المواطن في الاستثمار بدلاً من حصره في دور المتلقي للخدمات.

في حديثه لـ”الصباح” وتابعته “كنوز ميديا” ، أوضح المدير التنفيذي لصندوق العراق للتنمية، محمد النجار، أن هذا التوجه يمثل نقلة غير مسبوقة في طريقة إدارة المشاريع الحيوية، ويهدف إلى جعل مشروع طريق التنمية مملوكاً للعراقيين ومفتوحاً أمامهم للاستثمار والمشاركة في تطويره، مؤكداً أن الدولة ستضطلع بدور المنظم والمشرف، وليس المنفذ المباشر، ما يضمن تحقيق أعلى مستويات الكفاءة والانسيابية في تنفيذ المشروع. النجار أشار إلى أن الحكومة تعمل على استقطاب شركات دولية كبرى ذات رؤوس أموال ضخمة وخبرات متراكمة في تشغيل مشاريع مماثلة حول العالم، بما يعزز فرص نجاح طريق التنمية بوصفه ممراً دولياً ستراتيجياً يربط الخليج العربي بأوروبا عبر الأراضي العراقية والتركية.

تأتي هذه المبادرة في سياق أوسع يشمل تأسيس الهيئة العليا الخاصة بالمشروع، وتفعيل أدوات الشراكة الدولية، سواء عبر الاتفاقيات الثنائية أو مذكرات التفاهم التي تُسهم في تكييف مسارات المشروع مع البنى التحتية في الدول المجاورة، وبخاصة تركيا ودول الاتحاد الأوروبي. وتبرز أهمية هذه الخطوة في ظل التحولات التي يشهدها الاقتصاد الإقليمي وتغير مراكز الثقل التجاري، ما يمنح العراق فرصة لإعادة التموضع كمركز محوري في سلسلة الإمداد العالمية.

 

من الناحية القانونية، يوفر قانون الشركات رقم 21 لسنة 1997 الإطار الذي يسمح بإنشاء شركة مساهمة عامة تشترك فيها الدولة مع القطاع الخاص والمواطنين، مع تحديد الحصص والأسس التعاقدية التي تضمن الشفافية والرقابة. الخبير في قضايا الاستثمار عامر الجواهري يرى أن هذه التجربة، إذا ما أُديرت باحترافية، يمكن أن تُحدث تحولاً في بنية الاقتصاد الوطني، خاصة إذا تم استدراج شريك ستراتيجي دولي يمتلك التمويل والخبرة في التشغيل والإدارة، إلى جانب إشراك المواطنين من خلال بيع الأسهم، بما يخلق حالة من التلاحم بين الدولة والمجتمع حول مشروع وطني جامع. ويقترح الجواهري أن تحتفظ الدولة بنسبة لا تقل عن 25 إلى 30 بالمئة من رأسمال الشركة، لضمان الدور الإشرافي والتنظيمي، بينما تُطرح النسبة الأكبر أمام المستثمرين والشركاء الدوليين.

تجربة توسيع قناة السويس في مصر تُعد نموذجاً قريباً من هذه الفكرة، إذ تم جمع التمويل من خلال مساهمة المواطنين، ما ساعد على تجاوز الاعتماد الكامل على الموازنة العامة. العراق، اليوم، يسعى لتكرار هذه التجربة بخصوصيته الجغرافية والاقتصادية، مع ضرورة التمييز بين السياقين القانوني والبيئي للمشروعين. في هذا السياق، يؤكد اقتصاديون أن العراق يمتلك سيولة مجمدة تُقدّر بعشرات مليارات الدولارات، إذا ما جرى تحفيز جزء منها للاستثمار في مشروع وطني مربح، فإن ذلك سيوفر تمويلاً ذاتياً، ويحرك الاقتصاد المحلي بشكل فعّال بعيداً عن تعقيدات التمويل الحكومي التقليدي.

في المقابل، تتطلب هذه الخطوة استعداداً مؤسسياً متكاملاً يشمل استقدام استشاري دولي لإدارة مرحلة التأسيس وفق المعايير الدولية، وبناء منظومة تعاقدية شفافة تجذب المستثمرين، وتمنحهم الثقة في بيئة استثمارية مستقرة. كما أن التشغيل الفعلي لطريق التنمية يحتاج إلى ربطه بشبكات سكك ومرافئ وخدمات لوجستية في دول الجوار، ما يستدعي الدخول في مفاوضات جدية لتوقيع اتفاقيات تشغيل مع شركات النقل والمصنعين والاتحادات التجارية، بحيث لا يظل المشروع محصوراً في حدود السيادة الوطنية فقط، بل يتحول إلى جزء من شبكة اقتصادية عابرة للقارات.

يتفق معظم المراقبين على أن المشروع، في حال تنفيذه بنجاح، سيكرّس تحوّلاً ملموساً في موقع العراق الاقتصادي، ويمنحه ميزة تنافسية في خريطة التجارة الدولية. كما يعزز الشعور العام بأن المواطن ليس مجرد تابع للدولة، بل شريك فيها. وتبرز هنا الحاجة إلى سردية جديدة تُقدّم طريق التنمية بوصفه مشروع دولة ومجتمع في آن واحد، لا مجرد ممر لوجستي، بل منصة إنتاج وتحول اقتصادي جذري طويل الأمد.م333

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى