كنوز ميديا – متابعة
في خضمّ حرب مدمرة تجاوزت أكثر من سنة ونصف، عادت إسرائيل لتطرح مبادرة جديدة لوقف إطلاق النار في غزة، لكن تحت عنوان “الهدنة المؤقتة”، المحمّلة بسلسلة من الشروط التعجيزية التي تحوّل أي اتفاق إنساني إلى أداة ضغط سياسي.
المقترح، الذي نُقل عبر مصر وبتنسيق مع الولايات المتحدة وقطر، لا يعكس نيّة حقيقية لوقف دائم لإطلاق النار، بل يسعى لتفريغ المقاومة من مضمونها وتحقيق أهداف عجزت عنها الآلة العسكرية خلال أشهر طويلة من القصف والاجتياح.
حماس.. سلاح المقاومة ليس بندًا قابلًا للنقاش
في موقف واضح لا لبس فيه، أعلنت حركة حماس أنها تتعامل مع المقترحات المطروحة بمسؤولية وطنية، لكنها لن تقبل بأي اتفاق لا يفضي إلى وقف دائم للحرب، وانسحاب كامل لقوات الاحتلال من غزة، ورفع شامل للحصار، وبدء مسار حقيقي لإعادة الإعمار. وأكدت أن سلاح المقاومة ليس بندًا قابلًا للنقاش، بل حق شرعي للشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه.
هذا الموقف ينسف جوهر الطرح الإسرائيلي، القائم على شرط نزع سلاح الفصائل، وهو ما تعتبره إسرائيل بوابة لأي وقف دائم للنار.
مقترح مشروط بالهيمنة.. لا بالتسوية
تفاصيل المقترح الإسرائيلي التي كشفتها وسائل إعلام عربية تشير إلى هدنة مدتها 45 يومًا، تبدأ بإطلاق سراح جزئي للأسرى الإسرائيليين مقابل دفعات من الأسرى الفلسطينيين، مع دخول مساعدات إنسانية محدودة. لكن الأهم من ذلك أن المبادرة تشترط بدء مفاوضات حول نزع سلاح المقاومة بعد أيام من سريان الهدنة، وعودة الجيش الإسرائيلي للتمركز في مناطق استراتيجية مثل رفح وشمال غزة. هذه البنود تعكس بوضوح أن المقترح لا يستهدف إنهاء الحرب، بل إعادة تنظيم الاحتلال وترسيخ الهيمنة العسكرية.
خديعة تبادل الأسرى.. أداة للضغط لا للإنفراج
في الظاهر، يوحي المقترح بأن إطلاق سراح الأسرى سيكون خطوة إنسانية متبادلة، لكنه في العمق، يُستخدم كورقة ضغط لمحاولة انتزاع مكاسب استراتيجية.
إذ يشترط المقترح الإسرائيلي الإفراج عن كل الأسرى الإسرائيليين – سواء أحياء أو جثث – قبل إتمام أي اتفاق دائم.
كما أنه يربط مراحل التبادل بتطور مفاوضات خلع السلاح، ما يجعل مصير الأسرى الفلسطينيين رهينة لشروط الاحتلال.
هذا النهج يهدد بتحويل ملف الأسرى إلى لعبة مساومة قسرية، بدلاً من كونه أداة لبناء الثقة.
الموقف الأمريكي.. صمت عن الابتزاز
الملاحظ في هذا السياق هو الدعم الضمني الذي يحظى به المقترح من قبل الولايات المتحدة، والتي تطرح نفسها كضامن للعملية.
لكن واشنطن لم تمارس أي ضغوط حقيقية على تل أبيب لقبول هدنة دائمة أو تخفيف شروطها.
بل إن بعض بنود المقترح – مثل إطلاق سراح الجندي الأمريكي-الإسرائيلي كخطوة خاصة – توحي بأن واشنطن منخرطة في هندسة الصفقة بما يخدم مصالحها، وليس بما يحقق العدالة للفلسطينيين. هذا الانحياز يكرّس فقدان الثقة بأي دور أمريكي “وسيط” في المفاوضات.
ازدواجية المعايير.. مساعدات إنسانية مشروطة بالإذعان
تشترط الخطة الإسرائيلية أن تُوجّه المساعدات الإنسانية إلى المدنيين فقط، عبر آليات رقابة تضمن عدم وصولها إلى المقاومة، وتُجرّم أي احتفاء بعمليات التبادل أو إظهار علني للأسرى الإسرائيليين. هذا النهج لا يتعامل مع غزة كمنطقة منكوبة تستحق الإغاثة، بل ككيان معادٍ يُفترض إخضاعه حتى في تفاصيل التوزيع الغذائي. في المقابل، لا تلتزم إسرائيل بأي ضمانات واضحة بشأن وقف القصف أو منع إعادة التوغل، ما يحوّل “الهدنة” إلى وهم مشروط بتجريد الفلسطينيين من وسائل بقائهم.
نزع السلاح..مطلب الاحتلال الأول.. وهدفه الاستراتيجي
تُجمع بنود المقترح على أن نزع سلاح حماس وبقية الفصائل هو الشرط الأساسي لبدء مرحلة ما بعد الحرب.
ووفقًا لتسريبات، فإن مصر أبلغت حماس أن لا اتفاق على وقف الحرب من دون فتح ملف نزع السلاح
. هذا البند يعكس جوهر الرؤية الإسرائيلية: لا تسوية، بل استسلام. إذ إن المقاومة، من وجهة نظر تل أبيب، ليست مجرد تهديد أمني، بل عقبة في وجه مشروع أكبر، إعادة هندسة غزة بما يضمن تفريغها من أي قوة ردع، تمهيدًا لتطبيق سيناريو التهجير أو الإلحاق الإداري لاحقًا.
الخداع الزمني
يقدّم المقترح نفسه كـ”هدنة مؤقتة” قابلة للتمديد، لكنها مشروطة بسلسلة طويلة من الخطوات التي تصب كلها في مصلحة الاحتلال، من تبادل الأسرى، إلى نزع السلاح، إلى إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي، إلى فتح مسارات تفاوض لم تُعرَف طبيعتها. بينما تُترك القضايا الأساسية مثل رفع الحصار، وإعادة الإعمار، وتحديد مستقبل غزة، غامضة أو مؤجلة. بهذا المعنى، يُخشى أن تكون “المؤقت” في الخطة مجرد وسيلة لشراء الوقت وفرض وقائع ميدانية جديدة.
الموقف الفلسطيني، وحدة الفصائل في رفض الطرح
اللافت أن رفض المقترح لم يقتصر على حماس، بل جاء منسجمًا مع مواقف بقية الفصائل الفلسطينية. إذ أكدت مصادر مقاومة أن طرح خلع السلاح مرفوض تمامًا، وأن كل الجماعات المسلحة ترى في ذلك خطًا أحمرًا لا يمكن تجاوزه. كما أبدت الفصائل استياءها من غموض الجانب المصري في توصيل الرسائل، واعتبرت أن بعض الوسطاء باتوا ينحازون للطرح الإسرائيلي بطريقة غير مباشرة، عبر تمرير شروطه دون ضمانات حقيقية للطرف الفلسطيني.
غطاء لفرض الاستسلام
في عمق الطرح الإسرائيلي، يظهر أن المشروع لا يهدف إلى تهدئة إنسانية أو معالجة كارثة إنسانية متفاقمة، بل هو جزء من استراتيجية متعددة المراحل لفرض شروط على شعب ما زال يقاتل، الفكرة ليست في مجرد وقف القتال، بل في ما سيأتي بعده، نزع السلاح، إعادة الانتشار العسكري الإسرائيلي، والعودة التدريجية للسيطرة الصهيونية على مساحات استراتيجية في القطاع.
هذا الطرح الذي تباركه واشنطن وتحمله مصر إلى طاولة التفاوض، لا يضع حدًا للحرب بقدر ما يعيد صياغتها. فبينما يُطلب من المقاومة إطلاق سراح الأسرى وفق جدول دقيق، لا يوجد مقابل حقيقي يُلزم إسرائيل بالانسحاب الكامل أو برفع الحصار بشكل فوري. بل الأسوأ، أن الاقتراح يفتح الباب أمام إسرائيل للعودة إلى رفح وشمال غزة، مما يعني عودة الاحتلال الفعلي وإن بغطاء تفاوضي.
الخطورة الأكبر أن المقترح يربط التقدم في المسار التفاوضي بنزع سلاح المقاومة، وهو ما يُعد اعتداءً مباشرًا على الحق الطبيعي للشعوب الواقعة تحت الاحتلال في الدفاع عن نفسها. هنا يتجلى أن الغاية ليست السلام، بل خنق غزة سياسيًا بعد أن فشلت آلة الحرب في خنقها عسكريًا. ومن هذا المنظور، فإن الرفض الفلسطيني لهذا المقترح لا يعد تعنتًا، بل قراءة استراتيجية لواقع يخفي خلف الكلمات المعسولة مشروعًا لإلغاء آخر ما تبقى من كرامة وطنية وممانعة شعبية.
في الختام، ما تطرحه إسرائيل حزمة من الإملاءات السياسية المغلّفة بغطاء إنساني. هدفها ليس فقط وقف الحرب، بل ضمان استسلام المقاومة، وتجريد الشعب الفلسطيني من آخر أدوات الدفاع عن نفسه. في هذا السياق، فإن أي قبول فلسطيني بهذه الشروط يعني عمليًا تصفية القضية من بوابة إنسانية، وهو ما ترفضه المقاومة جملة وتفصيلًا. وعليه، فإن مستقبل أي اتفاق لا يمكن أن يقوم إلا على قاعدة وقف شامل للحرب، وانسحاب كامل من غزة، ورفع الحصار، وضمانات دولية حقيقية تحمي الشعب الفلسطيني من الغطرسة الإسرائيلية.ع666