عراق ما بعد 2003 : صراع السلطة والعقل حين يُقصى نور المعرفة .؟
بقلم _ الخبير بالشأن السياسي والأمني طه حسن الأركوازي
يشهد العراق ما بعد عام 2003 فجوة عميقة ومثيرة للقلق بين الطبقة السياسية الحاكمة والنخبة المثقفة والأكاديمية ، هذه العلاقة المتوترة ، التي تتراوح بين الحذر والعداء الصريح ، ليست وليدة اللحظة ، بل تعمقت جذورها في طبيعة النظام السياسي الذي تشكّل في أعقاب ذلك التاريخ ، نظام يبدو أنه يخشى بطبيعته صوت العقل النقدي المستنير ، فالمثقفون والأكاديميون العراقيون بما يمتلكونه من فهم شامل لتاريخ البلاد وتعقيدات حاضرها وتشابكات محيطها الإقليمي والدولي ، يمثلون قوة تحليلية قادرة على تشخيص العلل وتقديم حلول مستدامة للأزمات المتلاحقة التي تعصف بالوطن هذه القدرة ، التي يفترض أن تكون ثروة استراتيجية للبلاد ، غالباً ما يُنظر إليها من قبل الكثير من الساسة كتهديد مُباشر لمصالحهم الضيقة وأجنداتهم الآنية ، فجل إهتمام هؤلاء ، في كثير من الأحيان ، ينصب على الحفاظ على المكاسب الشخصية والامتيازات الحزبية والفئوية في تناقض صارخ مع تطلعات الشعب وتضحياته الجسام .
إن جوهر الأزمة العراقية الراهنة يتجاوز حدود الخلافات السياسية السطحية إنها أزمة قيم ومبادئ ، فلقد شهدنا ولا نزال نشهد ، تأكلًا مُمنهجاً للقيم والمبادئ الأساسية في العمل السياسي ، مما أفسح المجال واسعاً أمام تفشي الفساد المستشري ، وسوء الإدارة المزمن ، وغياب العدالة الاجتماعية .
إن معالجة هذا الخلل القيمي الجذري هو الشرط الأساسي لأي محاولة جادة لإصلاح النظام السياسي المتهالك ، وبناء دولة عراقية قادرة على تلبية طموحات شعبها وأستعادة مكانتها ، فبدون أستعادة البوصلة الأخلاقية ، ستظل أي حلول سياسية مجرد مسكنات مؤقتة لأمراض مستعصية تهدد كيان الدولة والمجتمع .
إن هذا النفور من النخبة المستنيرة ليس بظاهرة جديدة على مر التاريخ ، ولكنه يكتسب في سياق العراق ما بعد 2003 أبعاداً أكثر خطورة وتأثيراً على مستقبل البلاد ، ففي الوقت الذي كان من المفترض أن تستفيد الدولة من خبرات وكفاءات أبنائها المتعلمين لبناء مؤسسات قوية ورصينة ، جرى تهميش هذه الكفاءات أو إقصاؤها بشكل ممنهج لصالح منطق المحاصصة الطائفية والحزبية الضيقة ، الذي أثبت فشله الذريع في إدارة الدولة .
وكما حذّر الفيلسوف الصيني كونفوشيوس قديماً : ( من مغبة إعلاء الثروة والسلطة على الحكمة والفضيلة ) ، إذ يبدو أن هذه الحكمة قد غابت تماماً عن المشهد السياسي العراقي المعاصر ، فكم من تحذير أطلقه أكاديميون وخبراء مُتخصصون عراقيون من مغبة السياسات الخاطئة التي تم أتباعها بعد عام 2003 ، ولكن قُوبلت بالتجاهل أو حتى بالتسفيه والتشكيك في وطنيتهم .؟
وكم من مشروع إصلاحي قدمته النخب الوطنية المخلصة ووجد طريقه المظلم إلى أدراج النسيان والإهمال المتعمد .؟
لتوضيح هذه المفارقة يمكننا أن نتخيل مُهندساً معمارياً عبقرياً يتمتع برؤية فريدة وفهم عميق لأسس البناء المتين والمستدام يقدم هذا المهندس تصاميم لمشاريع حيوية تهدف إلى بناء مدن عصرية ومستقرة ، تأخذ في الاعتبار أحتياجات السكان على المدى الطويل وتستفيد من أحدث التقنيات والمعايير الهندسية ، ولكن بدلًا من أن يتم أستقبال تصاميمه بحفاوة وتقدير ، يجد هذا المهندس نفسه مُهمشاً ومقصياً ، يتم تفضيل مقاولين غير أكفاء يقدمون مشاريع رخيصة وسريعة التنفيذ ولكنها تفتقر إلى الجودة والاستدامة ، في وقت يتم تجاهل تحذيرات المهندس من مخاطر هذه المشاريع على المدى الطويل ، وتُرفض تصاميمه “المكلفة” التي تضمن المتانة والسلامة ، وفي النهاية ، يتم تنفيذ مشاريع هشة وسريعة العطب ، سرعان ما تظهر فيها العيوب وتنهار بنيتها التحتية ، مما يكلف البلاد أضعاف ما كان سيُدفع لو تم الأخذ بتصاميم المهندس الكفوء في المقام الأول ، هذا السيناريو يجسد إلى حد كبير حال النخبة المثقفة في العراق ، التي تقدم رؤى وحلولًا متينة لبناء الدولة ، لكنها غالباً ما تُقابل بالإهمال والتفضيل للحلول الآنية التي تخدم مصالح ضيقة .
إن مشكلة العراق الأساسية تكمن في هذا الانفصال المُتزايد بين السلطة والمعرفة ، بين منطق القوة الغاشمة ، ومنطق العقل المستنير ، وكما قال الفيلسوف إيمانويل كانط : ( الضمير هو أفضل قاضٍ للإنسان ) ، ويبدو أن هذا القاضي قد غُيب أو أُسكت في الكثير من القرارات والسياسات التي أتخذت وما زالت تتخذ في عراق ما بعد 2003 .
إن استحضار مقولة ألبرت أينشتاين الشهيرة حول “الجنون” يكتسب هنا دلالة خاصة ومؤلمة ، فمع تكرار نفس الأخطاء الفادحة والاعتماد على نفس الآليات السياسية الفاشلة والمدمرة منذ عام 2003، يصبح من المستحيل توقع نتائج مختلفة أو تحقيق أي تقدم حقيقي على صعيد بناء الدولة والمجتمع .
إن تجاوز هذه الحلقة المفرغة يتطلب اعترافاً حقيقياً بأهمية الدور الحيوي الذي يجب أن تضطلع به النخبة المثقفة في بناء مستقبل أفضل ومزدهر للعراق ، فكما نبه الأديب جبران خليل جبران حين قال : ( غالباً ما يجهل القادة قيمة أولئك الذين يفكرون بصمت وعمق ، ويستشرفون المستقبل برؤية واضحة ) ..؟
إن إعادة الاعتبار لقيمة العلم والمعرفة والأخلاق في الحياة العامة العراقية هو المدخل الحقيقي والضروري لتحقيق التغيير المنشود ، وكما قال إمام المتقين وسيد العارفين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) : ( لا تستحي من الحق وإن قل ، ولا تستحي من الباطل وإن كثر ) ، وعلى الطبقة السياسية العراقية أن تستمع بإنصات ووعي إلى صوت العقل والحكمة القادم من النخب الوطنية المستنيرة ، وأن تدرك يقيناً أن بناء عراق قوي ومزدهر ومستقر لا يمكن أن يتحقق إلا بتكريم العقول والاستفادة القصوى من طاقاتها الخلاقة وإخلاصها للوطن …!