المفكر الدكتور علي المؤمن: سيرة عطاء في مقاربات التاريخ
بقلم _د. فاطمة حسين سلومي
(باحثة وأكاديمية من العراق، أُستاذة في الجامعة المستنصرية ببغداد)
عندما نكتب عن الدكتور المفكر علي المؤمن؛ فنحن بحاجة الى المئات من الصفحات لكي ندون تلك السيرة الوضاءة، مرّة حول عمله النضالي والسياسي الذي تجاوز حدود الزمن المثالي، ومرة عبر الاستذكار في ذاكرة طرية، لم تمحها سنون عذابات الروح ومعاناة الاغتراب الحقيقية التي أخذت حضور المؤمن في ساحة فكرية وثقافية، وهي بالأصل نابعة من مرتع أُسرته العريقة (آل الغريفي)، التي حملت هموم الانتماء للوطن وعطائه الذي أفاض صعاب الغربة، ضمن مصاديق تجربته ذات الأفاق الحياتية المزدانة بالتعبير عن الإسلام الواقعي، النابع من عالم العقل المشوب بالفكرة الموشحة بالتجديد والمرتكزات الفلسفية، وهي التوصيفات التي آثرت مسيرته.
لم يقف علي المؤمن على باب العلم متردداً، بل سمة المقدمة الإبداعية هي الغالبة في كتاباته وتعبيره وإبداء الرؤى الحكيمة والموقف في إي قضية يذكرها، وهو ما جسده فعلاً في أغلب كتاباته الفكرية والسياسية والتاريخية، ومن بينها «سنوات الجمر»، «صدمة التاريخ»، «جدليات الدعوة»، «الفقه والدستور»، «النظام السياسي الإسلامي الحديث» و«الإسلام والتجديد»، ثم ليأتي نقده للطائفية ليشكل محدداً مهماً في رفض التعصب والانغلاق في متاهات الأفكار، من خلال تحويلها إلى أسلوب آيديولوجي ناضج، متسماً بالتسامح والأحقية في إبراز منهجيتها، ضمن رؤية معمقة بعيدة عن السجالات التي تؤدي إلى صناعة التقسيم الطائفي، ناهيك عن كتبه المترجمة والروايات والدراسات والمقالات، وغيرها من النتاجات التي شكلت شمائل من الرؤى والنماذج المنطلقة من عقيدة، مفادها بعدمية وجود نظرية في مجالات الحياة ما لم تتطلع إلى تطبيقها بشكل صحيح.
هكذا هو المفكر علي المؤمن؛ مهما بلغ من العلم في حياته، يشعر أنه يرتقي بالمزيد، ليشكل عنواناً حاضراً وسجية لا مثيل لها في كتابة وتدوين التاريخ، التي تؤكد مضامينها بأنّ المعرفة الإنسانية تمر بمراحل التطور، مع البقاء على بنيوية فكرتها؛ فالتاريخ لا يكتف بالزعماء والقادة والحكام والوقائع والأحداث، بل يمر بمرحلة حياتية متكاملة، تنبثق أصولها من القوانين الحاكمة بساعة البداية.
وقد اتسم علي المؤمن المفكر والإنسان بروح متفائلة وعقل فاق الخيال؛ فلو تمعنا في مؤلفاته الخاصة بإعادة كتابة تاريخ العراق السياسي المعاصر والحركات الإسلامية، لوجدنا أُفق الكلمة الموضوعية والتناسق الفكري والسياسي، وهي تضاف الى مؤلفاته العميقة التي قارب فيها الفكر الثيوقراطي والفكر الديمقراطي والفقه السياسي الإسلامي، وقارن بينها، بعيداً عن الاستعارة المجازية والكتابة ذات الأفكار المعلبة؛ فحمل لنا حلولاً لهذه المسائل الخلافية التي لا يقطع فيها خطا أو صواب، لكون الآخر لا يجرؤ على بيان خطأ هذا القول وصوابه، فسعى علي المؤمن إلى البعد الفلسفي والاجتماعي والتاريخي لهذه المدارس الفكرية.
وقارب في مؤلفات ودراسات أُخر إشكالية الهوية الوطنية الجامعة ومفهوم دولة المواطنة، من أجل المساهمة في رسم جزء من بناء الدولة، لا تركيبة السلطة، في مقاربات علمية، دوّنت تاريخ العراق السياسي وحركاته بتماس مع دلالة جوانب الماضي لظهورها بتوظيف أحداث ما مر به العراق من ويلات الحروب وإفرازاتها، والدور الذي اضطلعت به المعارضة العراقية في مقارعة الطغيان في حقبة تاريخية امتازت بالعنصرية والطائفية وشمولية النظام السياسي، الذي ميّز المجمع العراقي وخلق حدوداً صعبة للتعايش من الناحية الفكرية والعقائدية.
وإزاء ذلك؛ تمكن علي المؤمن في رسم إطار تاريخي يغذي الخطاب السياسي بالحماسة والسردية التي تركز على الحفاظ على الهوية الجامعة، وهذا ما لمسناه في كتابه الاجتماع الديني الشيعي: ثوابت التأسيس ومتغيرات الواقع، وما استعمله من منهج متكامل اقترب كثيراً من المنهج الاستقرائي في جمع المعلومات عن الظواهر الشيعية وتحليلها ودراسة جزئياتها واستقراء شامل لها وكيفية انتشارها، منذ تولي الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) خلافة المسلمين واتخاذه الكوفة عاصمة للدولة الإسلامية، وما أعقبها الحفاظ على مقومات التشيع واتساع الجغرافيا الإسلامي لها. من هنا؛ حاول المفكر الدكتور علي المؤمن أن يضفي على طابعه القدرة في دراسة مذهب التشيع، والاستناد إلى مناهج أخرى مساندة، منها المنهج التحليلي المعتمد بالدرجة الأساس على بروز أشكال أخرى لجزئيات هذا المنهج في طريقة الاستكشاف الوصفي التحليلي، لوضع صيغة نهائية لإثبات الفرضية المعنية ببدايات التشيع ورموزه، وحتى تبلور هيكلية النظام الاجتماعي الديني الشيعي الحديث. وعلى الرغم من التحديات التي تعرض لها في فترات تاريخية متعددة، فإن الدكتور المؤمن وضع التفسيرات المناسبة للعبور على التحديات، بالمقارنة المطروح مع المذاهب الأخرى.
وكان انضمام الدكتور علي المؤمن لحزب الدعوة الإسلامية في العام 1979، منطلقه لبناء المفاهيم وبث الوعي الفكري لتغيير الواقع الذي كان المجتمعات المسلمة تشهده، ومنه المجتمع العراقي؛ فاغترف المؤمن تعاليم هذا الحزب وسعيه في بناء دولة إسلامية وفق ما تتطلبه الشريعة والدين الإسلامي، انطلاقاً من إيمانه بالهيكل العام لبناء الدعوة والمرحلة التغييرية التي ناضل من أجلها دعاة هذا الحزب منذ تأسيسه سنة 1957 ووضع اللبنة الأولى لانبثاقه. لذلك سعى علي المؤمن إلى خلق التضاد في الذات ما بين التأثر والتأثير لصيرورة النفس البشرية في مخاطبة حياتية لمكنونات الروح التي أضفت ديمومة للنسيج الاجتماعي الذي كتب عنه، لإبراز عقيدة المجتمع العراقي وتشذيب العقل الجمعي الذي حاول تمزيق هذا الواقع، بكل ما شهده من تحديات داخلية وخارجية ومحاولته التخلص من أعباء الماضي. ولعل دراسته لدستور العراق بعد العام 2003، تدلل على انفتاح الرؤية التي يتصف بها؛ فكان شامل التشخيص والفكر الحر النابع من عمق دراسته، ليكون داخل التجربة الفكرية والثقافية البعيدة عن التنظير ضمن نتاج التاريخ الذي خاض فيه محارباً البدع، والاندفاع وراء الفوضى الفكرية، ما بين مؤيد لإظهار حقائق الوعي الصادق، ومدافع عن النخب التي تلامس الفلسفة بكل إشكالها.
وبين هذا وذاك، أخذنا المفكر الدكتور علي المؤمن إلى مديات رفضه الموضوعي للطائفية بكل أشكالها التي عانى منها المجتمع العراقي؛ فكان رافضاً لتقسيم مكونات الشعب العراقي، وداعياً الى الحفاظ على الهوية الوطنية والإسلامية، والتعايش السلمي، ليجسد انتماءاته المتنوعة بصور ثابتة للحياة الرافضة للتطرف والمذهبية المغلقة والإرهاب الذي عصف بالبيئة العراقية، ومؤكداً على الوعي السياسي ومسؤوليته في الشعور بالاستقرار، من خلال شعور الفرد بمصيره التاريخي من منظور الحقائق المجتمعية، ومشروعية تقاسم الحياة بين المكونات التي تنتمي الى آيديولوجيات مختلفة، بعيداً عن انتقائية الآخر. وقد اعتمد الدكتور المؤمن في ذلك على أدوات البحث والتقصي المبني على الشواهد، من أجل تحقيق السلام والتعايش والاستقرار المجتمعي، كونه يعتقد إن الطائفية، وخاصة في وجهها السياسي، كانت قائمة في عصور الاحتلالات التي غزت العراق على مدى التاريخ أو في عهود ما عرف بالحكم الوطني، وما تسببت فيه من مشروعات طائفية، كان بعضها مهدداً لحياة الإنسان. وفي مواجهة ذلك؛ عمل علي المؤمن على التحذير من هذا الخطر المصيري، ودعا الى تغليب الهوية الوطنية الجامعة الحقيقية على الهويات الفرعية التي استخدمها الطائفيون والعنصريون كورقة رابحة سياسياً، وهي الورقة التي كانت ومازلت حاضرة في عقول بعض من يستغل اختلافات أبناء الوطن الواحد في اللغة والدين والمذهب واللون.
وعليه؛ فالمؤمن أبدع في بيان هذه المقاربات لفهم الواقع العراقي، بعيداً عن النمطية القائمة على الأحكام المسبقة، وعن مساعي التقسيم، عبر لغة عقلانية ومنهجية علمية واضحة، جسدت وعيه المفارق للتناقض الفكري والعقائدي والنزعات القائمة على خلق الأزمات. وبعد كل ما طرحناه من رؤية حول نتاجات المفكر الدكتور علي المؤمن؛ فإنه يعد أقل ما يقال عن هذا الرجل الإنساني الذي أفنى عمره في العطاء والمثابرة والإنجازات العلمية المتعددة التي اتسمت بالمصداقية والأفكار المتنوعة التي حصد من خلالها التكريمات محلياً وعربياً وعالمياً.