أَدَبُ الشَّرِيعَةِ وَالحَجُّ: طَرِيقُ العِزَّةِ وَالوَحْدَةِ وَالبَرَاءَةِ مِنْ أَعْدَاءِ الإِسْلَامِ
بقلم _ حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ المَهْدِيِّ
مِمَّا لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّ أَدَبَ الشَّرِيعَةِ يُؤَدِّي إِلَى اكْتِسَابِ الأَخْلَاقِ الرَّفِيعَةِ، وَاجْتِنَابِ الخِصَالِ الوَضِيعَةِ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ: **«إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلَاقِ»**.
فَأَدَبُ الشَّرِيعَةِ يُعِينُ عَلَى قُوَّةِ البَصِيرَةِ وَصِحَّةِ السَّرِيرَةِ، وَيُؤَدِّي إِلَى أَدَاءِ الإِنْسَانِ المُسْلِمِ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ عَلَيْهِ مِنَ العِبَادَةِ. فَهُوَ يَرْشُدُ إِلَى حَقَائِقِ الفَضْلِ، وَطَرَائِقِ العَدْلِ، وَعِمَارَةِ الأَرْضِ، وَصِلَةِ الإِخْوَانِ، وَالابْتِعَادِ عَنِ اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ وَعَمَلِ الفُسُوقِ وَالعِصْيَانِ. وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الجَزَاءَ لَا يَفُوتُ، وَأَنَّ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ لَا تَمُوتُ.
فَمَنْ آمَنَ بِاللهِ التَجَأَ إِلَيْهِ، وَمَنْ وَثِقَ بِهِ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ. وَحَسُنَتْ أَخْلَاقُهُ، وَبَلَغَ مُرَادَهُ، وَكَانَتِ التَّقْوَى زَادَهُ. وَعَلِمَ اليَقِينَ أَنَّ مُحَمَّدًا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ جَاءَ بِالقُرْآنِ العَظِيمِ، الهَادِي إِلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ.
وَهَا نَحْنُ فِي أَشْهُرِ الحَجِّ وَالأَشْهُرِ الحُرُمِ، وَالعَاقِلُ فِيهَا مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ أَدَبَ الإِسْلَامِ، وَفَرَّ مِنْ ظُلْمِ نَفْسِهِ وَظُلْمِ بَنِي الإِنْسَانِ. فَمَنْ أَرَادَ فِيهَا الحَجَّ، وَاسْتَجَابَ لِلرَّحْمَنِ، وَاجْتَنَبَ الرَّفَثَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ، فَهُوَ قَاصِدٌ لِلْكَعْبَةِ المُشَرَّفَةِ؛ زِيَارَةَ البَيْتِ العَتِيقِ الَّتِي هِيَ رَمْزٌ لِوَحْدَةِ المُسْلِمِينَ. بِهَا تَرْتَبِطُ قُلُوبُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَقْبِلُونَهَا فِي صَلَوَاتِهِمْ، وَإِلَيْهَا فِي كُلِّ عَامٍ تَتَوَافَدُ أَفْرَادُهُمْ وَجُمُوعُهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ لُغَاتِهِمْ وَتَبَايُنِ أَلْوَانِهِمْ. يَتَجَرَّدُونَ فِي إِحْرَامِهِمْ مِنْ ثِيَابِهِمِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى رِئَاسَةٍ أَوْ غِنًى أَوْ فَقْرٍ، لِيَلْبَسُوا ثِيَابَ الإِحْرَامِ البَيْضَاءَ بِلَوْنٍ وَاحِدٍ وَهَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ، يَعْبُدُونَ رَبًّا وَاحِدًا. يَتَعَارَفُونَ، وَيَتَعَاضَدُونَ، وَيَتَنَاصَحُونَ، وَيَأْتَمِرُونَ فِي مَصَالِحِهِمْ، وَيَتَحَدُّونَ عَلَى نُصْرَةِ دِينِهِمْ وَبِلَادِهِمْ.
وَمِنْ حِكْمَةِ الحَجِّ أَنْ جَعَلَهُ اللهُ مَدْرَسَةً عَمَلِيَّةً لِلتَّسَامُحِ؛ حَيْثُ يَتَجَرَّدُ الحُجَّاجُ مِنْ عَلامَاتِ الفَوَارِقِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَيَتَعَلَّمُونَ الصَّبْرَ عَلَى المَشَاقِّ، وَيُعَايِشُونَ مَعْنَى الأُخُوَّةِ الإِيمَانِيَّةِ الَّتِي تَتَجَاوَزُ الحُدُودَ الجُغْرَافِيَّةَ وَالانْتِمَاءَاتِ القَوْمِيَّةَ، مِمَّا يُرَسِّخُ قِيَمَ التَّعَارُفِ وَالتَّعَاوُنِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، وَنَشْرَ الفَضِيلَةِ، وَالعَمَلَ عَلَى تَبْلِيغِ الإِسْلامِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ الإِسْلامِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ
إِنَّ هَذَا الحَجَّ، وَهَذَا الاجْتِمَاعَ عَلَى الهُدَى وَالرُّشْدِ وَالخَيْرِ، يَقُومُ عَلَى الأُخُوَّةِ العَامَّةِ وَالمَوَدَّةِ الرَّاحِمَةِ. إِنَّهُ الاجْتِمَاعُ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ، وَتَعْظِيمِ مَشَاعِرِهِ، وَأَدَاءِ فَرِيضَةِ الحَجِّ وَمَنَاسِكِهِ فِي مَنْطَقَةِ الأَمَانِ؛ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا. إِنَّهُ الاجْتِمَاعُ عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ وَالحُبِّ فِي اللهِ، الَّذِي أَسَاسُهُ الِالْتِزَامُ بِمَنْهَجِ اللهِ، الَّذِي هُوَ مِقْيَاسُ الإِيمَانِ وَعُنْوَانُ التَّوْفِيقِ فِي الدُّنْيَا وَرِضْوَانِهِ فِي الآخِرَةِ.
وَلَنْ يَكُونَ حَجُّ الإِنْسَانِ مَبْرُورًا إِذَا كَانَ مُوَالِيًا فِي نَفْسِهِ وَمُجْتَمَعِهِ لِأَعْدَاءِ اللهِ، وَأَعْدَاءِ الأُمَّةِ الَّذِينَ يَسْفِكُونَ دِمَاءَ الشَّعْبِ الفِلَسْطِينِيِّ، وَيُحَاصِرُونَ اليَمَنَ وَيَعْتَدُونَ عَلَيْهَا. سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ خَوْفًا أَوْ ذُلًّا مِنْ هَذَا العَدُوِّ الجَائِرِ، أَوْ حِرْصًا عَلَى اسْتِبْقَاءِ مَوَدَّةِ الأَعْدَاءِ مِنْ أَجْلِ المَالِ أَوِ الجَاهِ أَوِ السُّلْطَانِ. فَذَلِكَ مَا يُخْرِجُ الإِنْسَانَ مِنْ حَقِيقَةِ الإِيمَانِ. كَيْفَ؟ وَالحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ:
**﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنٌ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾**.
بَلْ إِنَّ الحَجَّ مُؤْتَمَرٌ عَامٌّ، يَنْبَغِي أَنْ يُعْلِنَ فِيهِ الحُجَّاجُ وَلَاءَهُمْ لِلهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِإِخْوَانِهِمْ، وَيُعْلِنُوا تَأْيِيدَهُمْ وَنُصْرَتَهُمْ إِخْوَانَهُمْ فِي فِلَسْطِينَ، وَاسْتِعْدَادَهُمْ لِلْجِهَادِ بِالمَالِ وَالنَّفْسِ. فَذَلِكَ أَقَلُّ وَاجِبٍ يُؤَدُّونَهُ.
فَلَيْسَ مِنَ الحِلْمِ التَّذَلُّلُ لِأَعْدَاءِ الإِسْلَامِ، بَلْ هُوَ خِيَانَةٌ وَذُلٌّ. وَيَغْفِرُ اللهُ لِلْقَائِلِ:
كُلُّ حِلْمٍ أَتَى بِغَيْرِ اقْتِدَارٍ
حُجَّةٌ لَاجِئٌ إِلَيْهِ اللِّئَامُ
مَنْ يَهُنْ يَسْهَلِ الهَوَانُ عَلَيْهِ
مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامُ
إِنَّ الحَاجَّ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ حَجِّهِ بِدَعْوَةٍ إِلَى نُصْرَةِ الحَقِّ وَأَهْلِهِ، وَالعَمَلِ بِالقُرْآنِ وَأَحْكَامِهِ، وَالبَرَاءَةِ مِنَ الشَّيْطَانِ الأَكْبَرِ وَأَعْوَانِهِ، يُسِيءُ إِلَى نَفْسِهِ وَإِلَى شَرِيعَةِ اللهِ الخَالِدَةِ. كَيْفَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ؟ وَاللهُ سُبْحَانَهُ أَنْزَلَ قُرْآنًا فِي ذَلِكَ، وَأَمَرَ رَسُولَهُ بِتَبْلِيغِهِ فِي يَوْمِ الحَجِّ الأَكْبَرِ:
**﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾**.
وَمَعَ ذَلِكَ، قَدْ يَكُونُ الحَاجُّ يَأْمُلُ فِي خُرُوجِهِ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. فَمِنْ غَيْرِ المُسْتَسَاغِ مِنْهُ أَنْ يَعُودَ عَاصِيًا لِلهِ، بَعِيدًا عَنِ اتِّبَاعِ هَدْيِ نَبِيِّهِ. تُرَى، فَأَيْنَ ذَهَبَ حَجُّهُ؟ فَالإِسْلَامُ كُلٌّ لَا يَتَجَزَّأُ:
**﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾**.
**﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾**.
**العِزَّةُ لِلهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَا نَامَتْ أَعْيُنُ الجُبَنَاءِ.**