العراق: رأس الشر في رواياتهم… ومفتاح النهاية في قدَر الله

بقلم _ ضياء أبو معارج الدراجي

 

لطالما وُصف العراق في الروايات الدينية اليهودية والمسيحية، بل وحتى في تفاسير مدرسة السقيفة الأموية، بأنه “أرض الشر”، منبع الفتن، وموطن الهلاك القادم على بني إسرائيل والروم وبني امية. ورد اسمه مقرونًا بالملاحم والنهايات، باعتباره المسرح الأخير لصراع لا مفر منه. هذه النظرة لم تكن رمزية فقط، بل تحوّلت إلى عقيدة مترسخة في أذهان مراكز القرار في الغرب، وفي أوساط أولئك الذين اتخذوا من معاداة التشيّع عقيدة سياسية وعسكرية ودينية.

 

لكن المفارقة أن هذه “الأرض المشؤومة” بحسب رواياتهم، تحوّلت فجأة إلى منجم للذهب الأسود. هنا لم تعد المشكلة رمزية أو روحية فحسب، بل تحوّلت إلى إشكال وجودي: كيف يمنح الله أرضًا كتبوا عنها الشر والخراب مثل العراق، هذا الكم الهائل من الخيرات والثروات؟ كيف يُخرج الله من رحم الشر ما يربك موازين قواهم ويحطم نظرياتهم العقائدية والسياسية؟

 

اذن لا بد من تصحيح “خطأ الرب”.

هنا بدأ المشروع الأخطر: تصحيح الجغرافيا لتطويع الرواية. فجاءت اتفاقية سايكس-بيكو عام 1916 ووعد بلفور بتوطين اليهود في فلسطين لتقود هذا التوجه، لا كترسيم للحدود وحسب، بل كمشروع لتفتيت هوية العراق وعزله عن مصادر القوة. قُسمت الأرض بحسب مصالحهم، فسلخوا أراضي عشائرية عراقية غنية عن جسد العراق وألحقوها بايران وسوريا والأردن والسعودية وتركيا، ثم اقتطعوا جوهر الكيان الجغرافي والاقتصادي: الكويت، وهي البوابة البحرية والنفطية الجنوبية للعراق.

 

ما تبقّى من العراق أُريد له أن يكون دولة بلا شاطئ، بلا سيادة، محاصرة بدول عميلة، لا تستطيع حتى أن تتنفس دون إذن خارجي. وهكذا، رُسمت خريطة جغرافيا مسمومة، ظاهرها حدود وطن، وباطنها قيود استعمارية مُحكمة.

 

لكن برغم ذلك، لم يمت العراق، ولم تجف آباره. فكان لابد من خطة جديدة: تسليط الاقليات حكاما على الاغلبية وقتل واقصاء ابناء البلد وتحويل العراق إلى ساحة صراعات داخلية. فجاءت الانقلابات العسكرية، ودُعمت الأنظمة التي تجهض أي مشروع استقلالي. شاه إيران، نظام دمشق، آل سعود، آل هاشم، وكل من ارتبط عضوياً بمشروع الشرق الأوسط كما رسمه الإنجليز والفرنسيون، اتفقوا على أمر واحد: لا يجب أن ينهض العراق.

 

إلا أن ما لم يكن بالحسبان هو انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، والتي حررت ثاني أكبر دولة شيعية في الشرق من قبضة الغرب. عندها، تحوّل العراق من “رأس شر” فردي إلى “مركز ثقل” لمحور يكذب كل الروايات القديمة التي كتبها الروم ومن شايعهم.

 

اصبح العراق وإيران محور القدَر الذي ذكره الرب في كتبهم لذلك كان لا بد من حرب تُنهي هذا التهديد المزدوج. فاستُخدم صدام حسين رئيس العراق ذو العقيدة الاموية، ودُفع لشن حرب ضروس ضد إيران استمرت ثماني سنوات. أُغرق العراق في الدم، ثم تُرك وحيداً، فظنّ أنه يستطيع خوض اللعبة وحده. اجتاح الكويت لا ليضمها فقط، بل ليكسر المعادلة التي وضعوه فيها، ويستعيد بوابته البحرية والنفطية. فكانت نهايته المرسومة مسبقًا. انتظروا 13 سنة، ثم جاؤوا لاحتلاله علنًا عام 2003.

 

اليوم في ظل حكم الاغلبية 2025،البحر يُغلق، والخور يباع والعدو يُعرَّف بوضوح ماذا يفعل.اليوم يعاد السيناريو من جديد. يُحاصر العراق بحرب مياه وخنق بحري واقتصادي ودبلوماسي. يُمنع من بناء ميناء الفاو الكبير،ويحرم من ممره المائي على الخليج (خور عبدالله التميمي العراقي) ويُشاغل بقضايا داخلية وقومية ومذهبية مصطنعة. لماذا؟ لأن العراق الشيعي اليوم ليس كياناً فقط، بل روحًا تتنفس مع إيران الباقية، تتكامل معها في جغرافيا القدَر، وتتحرك ضمن سيناريو معكوس للروايات القديمة.

 

واخيرا تحالف أتباع السقيفة مع الروم الذين يتبعون الرواية المنقولة عنهم: “تُصالحون الروم صُلحًا آمنًا ثم تغزون أنتم وهم عدوًا من ورائهم”، فهل هناك أوضح من المشهد اليوم؟ تحالفات عربية صريحة مع الغرب واسرائيل ضد محور العراق-إيران، بذريعة مواجهة “الخطر الشيعي”، والذي هو نفسه في رواياتهم “العدو الذي يسبق خروج المهدي وقتال الدجال”.

ان العراق ليس رأس الشر… بل بوابة الملاحم،لقد ظنوا أن بتقسيمه، وتشويهه، وتحطيمه،سيكسرون سُمعته وقدره. لكن العراق لم يكن يومًا أرض شر، بل هو مسرح الصراع النهائي، ومفتاح نصر الله، الذي “يُتم نوره ولو كره الكافرون”. فالحرب لم تكن يومًا على أرضه، بل على نوره، وعلى وعده، وعلى هويته الشيعية التي تحيا رغم الجراح.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى