السُلم الخفي كيف يقود المال إلى السلطة وصناعة القرار .؟

بقلم _ طه حسن الأركوازي الخبير بالشأن السياسي والأمني

في عراق العجائب والغرائب ، لم تعد السياسة ساحة للتنافس العادل بين البرامج أو الكفاءات ، بل تحوّلت إلى مضمار تحكمه قواعد غير مُعلنة ، يتصدرها المال فقد بات المال هو السُلم الخفي الذي يصعد عبره أفراد وشخصيات مدعومة من مراكز النفوذ نحو مواقع القرار ، وعلى مدى السنوات الماضية ترسخت أنماط من التزاوج العميق بين السلطة والثروة ، نتجت عنها شبكة مغلقة من المصالح الحزبية والعائلية ، يُعاد تدويرها في كُل أنتخابات تحت غطاء ديمقراطية شكلية تخلو من المنافسة الحقيقية أو التداول السلمي .

يستعد العراق لأنتخابات برلمانية في نهاية عام 2025 ، وسط مؤشرات واضحة على تزايد ظاهرة “النفوذ الوراثي” داخل الأحزاب والتيارات ، حيث بات التمثيل النيابي والتنفيذي في كثير من المناطق محصوراً بوجوه تنتمي إلى نفس الدوائر الضيقة ، فقد أختزلت عدة قوى سياسية تمثيلها بشخصيات محددة تمثل الامتداد العائلي أو المقرب لقياداتها ، ويجري تجهيز الأبناء أو الأصهار للترشيح ، بتمويل ضخم وإدارة أنتخابية محكمة ، وتحالفات خلف الكواليس مع شبكات متغلغلة داخل مؤسسات الدولة ، ورغم أن هذا النمط لم يتحول رسمياً إلى نظام حكم عائلي ، فإن ملامحه تتعمق عاماً بعد عام ، بعض الأوساط السياسية باتت تهيمن على أكثر من مستوى في السلطة : من البرلمان إلى الوزارات ، ومن المحافظات إلى ملف الاستثمار والعقود ، بل وحتى التأثير في العلاقات الخارجية ،
في المقابل ، يُستدعى المواطن في كُل مرة إلى التصويت لمُرشحين يدرك مُسبقًا أنهم يمثلون قوى النفوذ لا مصالح الناس .؟
هذه الظاهرة تعكس خللًا بُنيوياً في النظام السياسي ، حيث أدى غياب المؤسسات المستقلة وضعف آليات المحاسبة إلى صعود المال السياسي بديلاً عن البرامج ، والمحسوبية بديلاً عن الكفاءة ، ومع أستمرار أعتماد الدولة على أقتصاد ريعي قائم على النفط ، بات الوصول إلى السلطة يعني أمتلاك مفاتيح الثروة ومنها بناء شبكة زبائنية تضمن الولاء وتعيد إنتاج النفوذ .
فاليوم ووفق هذه المُعطيات لم يعد خافياً على أحد أن تشكيل الحكومات في العراق لا يُحسم فقط داخل البرلمان أو عبر صناديق الاقتراع ، بل ما يجري خلف الأبواب المُغلقة ،،ضمن صفقات بين القوى الكبرى المُتككمه بالسُلطة والمال والقرار وتحت أنظار ومباركة أطراف إقليمية ودولية لها مصالح مباشرة في من يحكم .؟
وهكذا ، فإن من يُمسك بالمال ويُحسن إدارة مصالحه يضمن لنفسه موقعاً في لعبة السلطة أو شراكة فيها على أقل تقدير ومكانه ، لگن الأخطر من كل ذلك أن الثقافة السياسية باتت تتقبل هذا النموذج أو تتعايش معه ، فلم يعد التوريث السياسي يُقابل بالرفض أو النقد كما في السابق ، بل يُمرر بهدوء ، عبر قوالب إعلامية أو خطاب ديني وأجتماعي يسوّغ أستمرار الوجوه ذاتها وكأنها قدر لا فكاك منه ، والشارع العراقي المنهك من الفقر وسوء الخدمات والبطالة بات أقل قدرة على المقاومة ، في ظل غياب البدائل الحقيقية وضعف القوى الإصلاحية ، وفي هذا المناخ ، تحوّل العراق إلى مجتمع أستهلاكي يتغذى على “بالات السياسة”، كما يتغذى على البالات الأوروبية في الأسواق تُستورد الأفكار ، وتُستنسخ المشاريع ، وتُعاد تدوير الشخصيات ، فيما تفرغ المؤسسات من مضمونها ، وتُختزل الدولة إلى أداة لتوزيع الغنائم ، إذا لم يحدث تحول جذري في بنية النظام يمنع تغوّل المال السياسي ويكسر أحتكار القرار داخل الدوائر المغلقة ، فإن العراق سيظل رهينة لهذا السُلم الخفي ، حيث لا مكان للكفاءة ، ولا مجال للشفافية ، ولا أفق لحكم مؤسساتي ، فمُستقبل البلاد لا يمكن إنقاذه بالشعارات أو الخطاب الإصلاحي وحده بل بمواجهة جادة لهذا التحالف العميق بين المال والسلطة وإعادة الاعتبار للدولة بأعتبارها مصلحة عامة لا مزرعة تتقاسمها نُخب وراثية مغلقة .

أخيراً ، إذا أستمر هذا النمط ، فلن يكون هناك أمل حقيقي في بناء دولة مدنية أو تداول سلمي للسلطة ، فنحن اليوم بأحوج ما نكون بحاجة إلى مشروع وطني شجاع ، يكسر أحتكار النفوذ والثروة ، ويُعيد بناء الدولة على أسس الكفاءة والنزاهة والمسؤولية لا على معادلات النفوذ والتوريث …!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى