كثرة البرامج السياسية… وقلّة الأثر
سلسلة: كثرة بلا أثر (٧).
بقلم _ الشيخ مجيد العقابي
من يراقب المشهد الإعلامي العراقي اليوم، يُدرك أن البرامج السياسية تكاد تهيمن على الخارطة اليومية لمعظم القنوات.
عدد كبير منها يتصدّر ساعات الذروة، ويُعاد أكثر من مرة في اليوم، ويُروَّج له بعناوين مكثفة وملامح مشحونة.
وقد يكون من المشروع أن يناقَش الواقع السياسي، ويُسلّط الضوء على ما يجري في أروقة القرار،
لكن حين تتحول هذه البرامج إلى الغالبية المطلقة في المشهد، لا بد أن يُطرح سؤال بديهي:
هل هذا الحجم من الإنتاج السياسي الإعلامي أحدث وعيًا عامًا، ونتائج مجتمعية، وإصلاحًا في البنية الديمقراطية؟ أم أنه كرّس نمطًا من التكرار والتشويش والإرهاق الذهني؟
المشكلة لا تكمن في عدد البرامج، بل في نمطها وأهدافها.
كثير منها لا يخرج عن كونه تكرارًا لمعارك كلامية متشابهة، واستدعاءً لوجوه متداولة، وتناوبًا على زوايا الخلاف أكثر من البحث عن زوايا الحل.
ومع الوقت، أصبح المتلقي يسمع أسماء الضيوف فيعرف ما سيقال، ويشاهد مقدّم البرنامج فيتنبأ بنبرة الحوار، ويعرف اتجاه الحلقة قبل أن تبدأ.
وحين يُفتَقد عنصر الإضافة، يتراجع دور البرنامج من صناعة رأي إلى مجرد مَلء فراغ.
لكن الإشكال الأعمق لا يتوقف عند التكرار والجمود، بل في الإفراط المبالغ فيه في تغذية الفضاء العام بلغة السياسة، دون موازنة مع بقية الأبعاد التي يحتاجها المجتمع.
لقد غابت البرامج التربوية، وتراجعت الثقافية، وتلاشت تقريبًا الخدمية، وتوارَت تلك التي تُعنى بتحليل الدين والسلوك والوعي الاجتماعي.
حتى بات المشهد الإعلامي أشبه بقاعة حوار دائمة، تدور فيها الأحاديث السياسية بتنوع القوالب وثبات النتائج،
بينما الأسرة بلا خطاب تربوي،
والشباب بلا بناء معرفي،
والمجتمع بلا توجيه قيمي يواجه تحديات التكنولوجيا، والانهيار الأخلاقي، والانقسام الاجتماعي.
وفي غياب هذا التوازن، لا نبالغ إن قلنا إن الإعلام قد ساهم من حيث لا يُقصد – وربما أحيانًا بقصد – في تهميش الحكمة، وإضعاف اللغة المعرفية، وإغراق الجمهور في مناخ من الإلحاح السياسي يُرهق العقل دون أن يفتح أفقًا للحل.
من هنا، تصبح الحاجة إلى مراجعة هيكل الإعلام وتنوّعه مسألة جوهرية، لا تعني بمهاجمة أحد، ولا بالتقليل من دور القائمين على البرامج،
بل بدعوتهم إلى التأمل: هل قدّمنا للناس ما يحتاجونه؟ أم ما يثيرهم؟ هل بنينا رأيًا ناضجًا؟ أم اجتهدنا في ملء الهواء؟
لقد آن الأوان أن يُعاد الاعتبار للبرامج التي تُربّي، لا فقط تلك التي تُحلّل.
وأن يُسأل: من يُعِدّ المجتمع لمواجهة المجهول؟ من يُرمّم الثقة بالمعنى؟ من يُعلّم الصبر، ويُحيي التفكير، ويزرع الأمل لا الغضب؟
فالوطن لا يُبنى بالصراخ، بل بالفهم.
والمشاهد لا يرتقي بتكرار الاتهام، بل حين يُحترم عقله، ويُخاطَب وجدانه، ويُمنَح فرصة أن يرى الحياة من زوايا أخرى غير زاوية السياسة اليومية.
البرامج السياسية ليست مشكلة في ذاتها، لكنها تتحوّل إلى مشكلة حين تملأ كل المساحة، وتترك الإنسان وحده يبحث عن كلمة إصلاح فلا يجدها.
الشيخ مجيد العقابي
مركز الفكر للحوار والإصلاح