أحتضار القيم نداء إلى ضمير العراق .؟

بقلم / طه حسن الأركوازي الخبير بالشأن السياسي والأمني

 

يا له من نداء مُلح ينبعث من صميم واقعنا العراقي الراهن أليس من دواعي الأسى العميق أن نشهد تداعي أركان مجتمعنا وتهاوي قيم وأخلاقيات كانت يوماً دليلاً نهتدي به ، حيثُ إننا نعيش اليوم في خضم تحولات تبدو وكأنها حرفت بوصلة إهتماماتنا نحو السطحي بدلاً من العميق ، ونحو الزائف بدلًا من الأصيل ، وحتى نحو المتملق الفاشل بدلًا من المفكر المبُدع .؟

إن عمق حضارة وادي الرافدين التي أمتدت لأكثر من سبعة آلاف عام ، يثير تساؤلًا مؤلماً هو هل أستمر هذا الشرخ في جوهر إنسانيتنا عبر كل تلك الحقب ، وهل كانت دائماً جاذبية المظاهر الخادعة أقوى من نور الحقيقة .؟

قد تستدعي الذاكرة أمثلة تبعث على الحزن ، فهل كان دائماً صدى خطوات الراقصة أعلى من همسات الكاتب .؟

وهل كانت قرقعة الطبول أشد جذباً من عرق العامل المُخلص .؟

ربما نجد في ثنايا التاريخ محطات تفوقت فيها شعبية فنان على مفكر أو حُظي فيها صاحب حرفة برواج مؤقت ، لكن هل يعكس هذا الصورة الكاملة .؟

إن صفحات التاريخ تحتفظ بأسماء كُتاب وفلاسفة ومفكرين حفروا بصماتهم عميقاً في ذاكرة الزمن ، حتى وإن لم ينالوا صخب الشهرة في حياتهم ، فكم من كلمة أطلقت شرارة تغيير ، وكم من فكرة أرست أسس حضارة .؟

وفي عصرنا الحاضر ، يشتد وطأة هذا التساؤل تخيل لو أنك دعوت قامة علمية كأينشتاين إلى ندوة ، ثُم وجهة إلى حديث صحفي مطرب ، فأي منهما سيستقطب إهتمام الجماهير ووسائل الإعلام .؟

غالباً ما ينجذب الإعلام والجمهور نحو الإثارة العابرة ، متجاهلين كنوز المعرفة والحكمة .؟

لكن هل يعني هذا أن قيمة العلم قد تضاءلت ، أم أن التحدي يكمن في كيفية تقديمه بأسلوب يلامس إهتمامات العصر .؟

إن أختزال الأمر برمته إلى أن “أكثر الناس من البهائم وأهل الهوى وعبيد الشهوات” يحمل قسوة في طياته ، صحيح أن هناك من يستهويه بريق اللحظة ويتجاهل العمق والأصالة ، لكن في كُل مجتمع توجد بذور خير تنمو وتتوق إلى الحق والجمال ، فهناك من يقدر العمل الجاد ، ويثمن الإنجاز الحقيقي ، ويسعى للمعرفة بصدق .

 

واقعنا العراقي اليوم هو مرآة تعكس هذا التحدي ، ويقدم صورة حية لهذا الصراع القيمي ، فكم نشهد من مظاهر الاحتفاء بالسطحية ، وتهميش الأصوات الجادة ، فغالباً ما تتصدر المشهد شخصيات لا تحمل في جعبتها سوى قرقعة فارغ ، بينما يُزوى أصحاب الكفاءات والعقول النيرة ، قيم وأخلاق كانت بالأمس القريب نبراساً لنا تتآكل أمام أعيننا ، تاركة فراغاً موحشاً يهدد هويتنا ومستقبل أجيالنا ، حتى بتنا نشهد بأم أعيننا كيف تتراجع الأصالة أمام بريق الزيف ، وكيف يُحتفى بالسطحي على حساب العمق ، وكأن بوصلة مجتمعنا قد أنحرفت عن مسارها الصحيح .

ختاماً ، قد يتردد في الأذهان صدى القول المأثور بأن هذا هو حال الدنيا منذ القدم .؟

لكن هل يليق بنا نحن أبناء الحضارة التي شهدت بزوغ أولى الحروف وتشريع أقدم القوانين أن نستسلم لهذا المنطق .؟

وهل نقبل بأن يطغى صخب المغنين على صوت المثقفين والمفكرين ، وأن يستحوذ بريق المشاهير على اهتمام شبابنا بدلًا من تقدير إنجازات علمائنا .؟

إن واقعنا العراقي اليوم يئن تحت وطأة هذا الشرخ العميق ، شاهداً على تهميش الكفاءات وإقصاء المبدعين الذين يعانون في صمت ، بينما يتربع على المشهد أولئك الذين لا يملكون سوى صدى أجوف ، لكن هذا الواقع المرير ليس قدراً محتوماً ، إن في أعماق كُل عراقي أصيل جذوة من الكرامة والإباء، وإرثًا حضارياً عظيماً يرفض الاستسلام للسطحية والتفاهة .

فلنجعل من هذا النداء صرخة مدوية توقظ الضمائر وتحفز الخطى نحو أستعادة قيمنا الأصيلة ، ولننبذ مظاهر الزيف والاحتفاء باللاجدوى ، ولنحتفِ بمن يستحق التقدير من أصحاب العلم والعمل والإبداع ، إن بناء عراق مُزدهر وقوي ، يليق بتاريخه العريق وتضحيات أبنائه ، يبدأ من إعلاء شأن القيم النبيلة وتقدير الكفاءات الحقيقية ، فلنجعل صوت العقل والحكمة أعلى من صخب الباطل ، ونور المعرفة أقوى من بريق الزيف ، لكي تعود للعراق مكانته اللائقة بين الأمم …!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى