كثرة المقدمين… وسلطة بلا ضوابط
سلسلة: كثرة بلا أثر (٨)
بقلم _الشيخ مجيد العقابي
في بدايات الإعلام المهني، كانت وظيفة مقدّم البرامج مرتبطة بمسؤولية محددة: أن يُدير الحوار، يُنظّم الوقت، يحترم الضيف، ويوصل صوت الناس بمهنية. لم يكن يُنظر إليه على أنه “نجم”، بل “واسطة”، أو إن شئنا الدقة: “مرآة” تُظهر الرأي العام بوضوح، دون تزويق ولا تضليل. لكن شيئًا فشيئًا، وخصوصًا في الإعلام العراقي بعد 2003، تغيّرت المعادلة تمامًا.
صار مقدّم البرامج، لا سيما السياسية، أشبه برأس السلطة داخل القناة. يتدخّل في اختيار الضيوف، ويضغط في طريقة إعداد الحلقة، ويتجاوز أحيانًا حتى على إدارة القناة نفسها.
بعضهم يُحاور الضيف وكأنه في جلسة تحقيق، لا برنامج حواري.
وبعضهم يُقاطع، ويتّهم، ويرفع الصوت، وكأن الهدف ليس الوصول إلى معلومة، بل استعراض السيطرة.
والمفارقة أن هذا النوع من السلوك الإعلامي لا يُواجه بالردع، بل يُكافأ أحيانًا بالجماهيرية، لأن المشاهد – الذي أنهكته السياسة – يظن أن الصوت العالي علامة شجاعة، وأن التهجّم دلالة على الجرأة، وأن مقاطعة الضيف تُظهر الموقف الوطني.
لكن الحقيقة أن هذا التضخم في شخصية مقدّم البرنامج أنتج تشوّهًا في وظيفة الإعلام نفسه، فبدلاً من أن تكون القناة منصة لتعدد الآراء، ومرآة لنبض الناس، أصبحت أداة لاستعراض الذات، وتكريس الفرد، وتضييق مساحة الرأي الواحد تحت عنوان: “فلان لا يُجارى، فلان يُسكت الجميع، فلان يُحرج الضيوف!”
وقد يُلغى موضوعٌ متفق عليه إن لم يُرضِ المقدم، أو يُقصى ضيفٌ لأنه لا “يتناسب” مع إيقاع الحلقة، وأحيانًا، تُبنى الدورة البرامجية على قياس شخصه، لا على حاجة المجتمع.
وإن كان بعض هذا الأسلوب يُحتمل في البرامج السياسية حيث يدور الحديث عن الرأي وتبادل المواقع، فإن استخدام المنهج نفسه في البرامج الدينية والثقافية يُعدُّ جناية على الفكرة، وخيانة لرسالة الكلمة.
الضيف هنا لا يُخبر عن واقعة، بل يُفكّك نصًا، أو يُبني رؤية، أو يُضيء منظورًا قد يقوم عليه فهم الناس لدينهم أو حياتهم.
وهذا النوع من الخطاب لا يحتمل التقطيع، ولا المداخلات الاعتباطية، لأن الفكر حين يُبتر، يُساء فهمه، وحين يُساء فهمه، قد يُتهم قائله، لا سيما في مجالات دقيقة كالدين والعقيدة والفكر.
وقد يتلقّى المتابع فكرة منقوصة، أو معكوسة، تفتح عليه شبهة لا ذنب له فيها، سوى أنه لم يُمنح وقتًا كافيًا لتكميل المعنى.
والمشكلة لا تقف عند المقاطعة، بل تمتد إلى توزيع الوقت بلا عدالة، وإقصاء بعض الضيوف لا لقصور في علمهم، بل لأنهم لا يخدمون اتجاهًا، أو لأنهم أقوى حضورًا من مقدّمٍ يريد أن يبقى الأعلى صوتًا.
وقد وصل الأمر إلى أن بعض مقدمي البرامج باتوا يلغون دور علاقات القناة بالكامل، فيُصبح انتقاء الضيوف شأنًا شخصيًا، تُراعى فيه الألفة لا الكفاءة، والمنفعة لا المصداقية.
وهنا يُطرح السؤال الأهم:
هل مقدّم البرنامج ناقلٌ للسؤال؟ أم وصيّ على الفكر؟
هل هو محاورٌ يُستنطق من خلاله الضيف؟ أم متسيّد يتحكم بمسار الحوار كما يشاء؟
إن البرامج الفكرية لا تحتمل خفّة المعالجة، والفكرة التي تُبتَر لا تعود كما كانت، والمقدم الذي يمنع الكلمة من الاكتمال، لا يخدم وعيًا بل يُطفئه.
وقد بلغت الحال بنا أن نُحسَب على قائمة الضيوف، لكننا نخرج في كثير من اللقاءات بغصّة، لا برؤية.
وأشهد من تجربتي الشخصية أنني – بعد تاريخ طويل من اللقاءات منذ 2004 – بتُّ لا أخرج من عشرة لقاءات إلا بواحد يُرضيني،
وبات اختياري للمقدّم أهم من الموضوع نفسه،
لأنني لست مستعدًا أن أُهرول لأجل أن يُبتر كلامي، أو أن أعيش بعد الحلقة خيبة أن الفكرة لم تكتمل، أو أنها شُوّهت تحت ضغط الوقت أو التوجيه.حتى عاب بعضهم غيابي وتدقيقي المبالغ فيه في الإعلام حيث لا اخرج مع اي احد وبات الرفض على لساني اكثر من القبول فقلة في راحة خير من كثير بلا اثر.
وما عادت فكرة “الظهور من أجل الظهور” تُغري من حمل همًا، أو فكرًا، أو كلمة يُسأل عنها يوم يلتقي ربه ومازالت لدينا منصات وقنوات نعتز بظهورنا بها بعيدا عن المؤدلجين والذين غيروا هدف الإعلام مما بات واضحا اثره على المجتمع.
الشيخ مجيد العقابي
مركز الفكر للحوار والإصلاح
13-05-2025