حديقة الچوادر”
بقلم _ جواد أبو رغيف
عند اول شجرة صفصاف في ركنها الممتد بموازاة حائط “مستشفى الچوادر” حتى نهاية “مدرسة ذي قار” كتب الشاعر “حسن المرواني” وهو عائد الى بيته ، شطر ملحمته الشعرية الوتر ( انا وليلى…..)، لم يكن المرواني المهموم الوحيد الذي جاشت عاطفته، في تلك البؤرة الثقافية التي كانت ملهمة للكثيرين من مبدعين ومناضلين مدينة الثورة الباسلة. الممتدة بعرض (50 × 200) والمحصورة بين “دور شهداء الجيش” وسياج “مستشفى الچوادر”، فقد كتمت اشجارها الفارعة وورودها اسرار نواة اول اجتماعات المناضلين ، وخطوات طريقهم الاولى لمواجهة البعث وزبانيته وهدامه الاهوج .
كنا صغاراً بمراحل المتوسطة الاولى عندما كنا نرتادها للقراءة ايام الامتحانات، ولطالما شّدنا منظر طلبة الكليات وطلبة البكالوريا وهم منهمكين مع كتبهم ، بينما كنا نسترق النظر اليهم، ونمني النفس على خطاهم، وكم يزعجنا نهاية الامتحانات، لان مثل عمرنا بغير وقت الامتحانات لا يسمح له ارتيادها الا في لحظات لطف من الله تعالى او غفلة حراسها، فحراس الحديقة اشبه بجندي في ربية!.
مع بداية الحرب “العراقية ـ الايرانية” في ثمانينيات القرن الماضي، كنت حينها طالب صف ثاني متوسط بـ “متوسطة الفارابي”، وعلى العادة نذهب في الامتحانات لـ حديقة الچوادر للقراءة، لكن ما لفت انتباهي قلة اعداد الطلبة، تبين فيما بعد انهم سيقوا وقوداً لحروب صدام وعبثيته. وتنفيذاً لخطط البعث في عسكرة المجتمع وبعثنته التي انطلقت في ثمانينات القرن الماضي وتحت شعار ( كل عراقي بعثي وان لم ينتمي)!، تم تشطيب متوسطة الفارابي واصبح جميع الطلبة بعثيون تحت مسمى( التنظيم الطلابي)، بدأت الاجتماعات الحزبية اسبوعياً في المدرسة بعد نهاية الدوام، وعادة ماكنا نحسب حساب ذلك اليوم، فنتناول لفة فلافل قبل الاجتماع لأن المسؤول كثير الكلام!، وفي حالة حضورنا ونحن جياع وكلما طال الاجتماع نزداد جوعاً فيلتفت زميلي “رحيم الملك” مردداً ذلك البيت : ( هلا اخذت لهذا اليوم اهبته ….من قبل ان تصبح الاشواق اشجانا)!.
انتهت السنة الدراسية وحمدنا الله خلصنا من اجتماعات الحزب المدرسية، لكن احد الرفاق الجهابذة اقترح ان تستمر اجتماعات الطلبة في قطاعاتهم لينهلوا من افكار الحزب والثورة!. سرعان ما تم تبليغنا بالحضور الى الاجتماعات الدورية، التي تصادف مع اهم برنامجين كنا نتابعهم ( الرياضة في الاسبوع) و ( كارتون سندباد)، ولا يعلم الرفيق كم الشتائم التي تناله في حال حرمنا متابعة اهتماماتنا!.
في احدى الليالي بلغونا بالحضور جميعا حضرنا لـ “مدرسة تطوان”، فوجدنا حضور كبير ومسلحين، عرفنا انهم يريدون القاء القبض على بعض خلايا احزاب معارضة لحزب البعث وهدامه تقيم اجتماعات وتنظيمات في حديقة الجوادر، وبعد ان تهيئوا لهدفهم، طلب المسؤول، وكان اسمه شاكر من مسؤول القطاع ان يخرجنا الى بيوتنا كوننا صغار. منذ ذلك التاريخ كان حقد البعثية على حديقة الجوادر كونها بؤرة ثقافية تشع نور في طريق الظلام، وكانوا يتربصون بها الفرص، بعدما تقصدوا اهمالها عمداً، حتى تمكن سمير الشيخلي من اجتثاثها بيوم ” عيد الشجرة”، فكان يومها يوماً من ايام فرهود بغداد الذي عرفوا به العراقيون، فقد اتوا على الحديقة التي طال زرعها عقد من السنوات بظرف “24” ساعة ، وسط تفرج اجهزة الدولة ، وبذلك طويت حكاية من حكايات مدينة الثورة.