صدام عوجة… لقب الرئيس المخفي عن شعبه، وكم من لقبٍ يتسلط علينا حاليا يشبه “عوجة” ثم أصبح خطًا أحمر.

بقلم _ ضياء أبو معارج الدراجي

 

عندما كنا أطفالًا نعيش في المناطق الشعبية، لم نكن بحاجة إلى بطاقات تعريف أو مستمسكات رسمية، كانت ألقابنا تكفينا. كل واحد منا كان له لقب خاص لا علاقة له بعشيرته أو نسبه، بل وُلد في الأزقة الضيقة، بين الشقاوة والبساطة. ألقاب صيغت من مواقف، من طباع، من ملامح، بعضها مضحك، وبعضها جارح، وبعضها محرج لدرجة أن صاحبها يتمنى لو لم يُنطق به يومًا,و(جلحة) ليست عنكم ببعيد حاله حال (ابن فلانه) او غيرها من اللقاب التي نتحرج من ذكرها.

 

مرت السنوات وكبرنا. بعضنا أصبح موظفًا، وبعضنا غادر البلاد، وبعضنا بقي قريبًا من نفس الأزقة. لكن ما يثير الدهشة أن من بين أولئك الأطفال برزت وجوه صارت اليوم في أعلى المراتب السياسية والحكومية والعشائرية. قادة، مسؤولون، أصحاب مواكب وحمايات، وألقاب رسمية ثقيلة. لكنهم يعرفون أن هناك من لا يزال يتذكّرهم كما كانوا: بلقبهم القديم، ذاك اللقب الذي لا يجرؤ أحد على التفوّه به إلا من عاش معهم تلك البدايات.

 

اليوم، حين يمر أحدهم بسيارة مظلّلة، يتجاهلني وكأننا لم نسر يومًا حفاة في الزقاق ذاته. لا بأس، فأنا لا أحتاج إلى تعريف، يكفي أن أناديه بلقبه الذي يعرفه ويخافه، ذاك اللقب الذي لا ينساه مهما حاول. وما إن يسمعه حتى يترك حمايته ومرافقيه، ويتحوّل فجأة إلى ذلك الطفل الذي يعرف أنني لا أحمل له شيئًا من النفاق، بل أحمل ذاكرة يعرف صدقها. لذا يسلّم عليّ ويبتسم باحترام، لأنه يدرك أني لا أريد منه شيئًا سوى لحظة تذكير.

 

بعض الألقاب كانت محرجة فعلاً، تحمل طابعًا قاسيًا، أو ترتبط بصفة كان صاحبها يتهرّب منها: خجلٌ، أو بدانة، أو لثغة في الكلام، أو حادثة ساذجة في الطفولة. ألقاب أصبحت عبئًا على أصحابها حين كبروا، وصاروا يبحثون عن الأضواء ليطفئوا بها ظلّ تلك الأسماء. لكن الألقاب لا تموت، تبقى حيّة في ذاكرة الأحياء الشعبية، أكثر مما تبقى في الوثائق الرسمية.

 

من هنا، حين خرج سمير الشيخلي قبل أيام وتحدث عن جريمة قاعة الخلد الشهيرة، لم يكن جديدًا ما قاله عن الإجرام البعثي، فكل ذلك بات معلومًا. لكن الجديد، والذي أثار الانتباه، كان تذكيره للعراقيين بالاسم الحقيقي لصدام حسين: صدام عوجة. شاب لقيط، فاقد الهوية، معدوم الأمل، صبي سائق في كراج علاوي الحلة، لا يملك من مقومات القيادة شيئًا، سوى أن المخابرات الغربية التقطته وصنعت منه مجرمًا يتحكّم من خلاله بشعبٍ كامل. نحن نعرف هذا جيدًا، لأننا نعرف كيف تُختار “الأنماط المكسورة” لتصبح أدوات في يد المشروع الصهيوني الأمريكي. وصدام لم يكن استثناء، بل كان النموذج الأول، والملهم لصعاليك آخرين في زمن آخر، في نسخة سُمّيت “تشرين”.

 

“عوجة” اسم حيّ في تكريت، لكنه لم يكن مجرد لقب. بل كان كلمة يخجل منها صدام لأنه تُذكّره بماضٍ قذر، وليس بذلك الماضي البطولي المزعوم الذي أراد أن يروّج له أمام الشعب العراقي، ويُحسِّن صورته عبر نضالٍ زائف وغدرٍ مغلّف بشجاعة مفقودة. لقب “صدام عوجة” ظلّ يطارده حتى بعد أن صار رئيسًا، لدرجة أنه عاقب مطربًا في تسعينيات القرن الماضي لأنه نطق بجملة: “صدام يابن العوجة” ضمن كلمات أغنية سياسية.

 

هذا اللقب أزعجه، تمامًا كما تُزعج ألقاب الطفولة أصدقاء الأمس حين اذكرهم بها اليوم، وهم في مناصبهم، ببدلاتهم، يتظاهرون بأنهم لا يعرفونني… إلى أن أنطق الاسم السحري الذي لا يستطيعون نسيانه ليدخلوا الى دوامة الذكريات القاسية التي يتهربون منها بالمنصب والمال والجاه المزيف.

 

هذا العالم – مهما تغيّر – لا ينسى أصله. وأحيانًا، اسم واحد يكفي ليُعيد أحدهم من فوق المنصة إلى رصيف الحيّ القديم.

 

ضياء أبو معارج الدراجي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى