الأم العراقية والعباءة في المخيال العراقي
بقلم – د.أمل الأسدي
بدءا دعونا نعرّف المخيال وماذا نقصد به، فالمخيال هو الرؤية الجماعية المتشكلة في الفهم الجمعي أو الوعي الجمعي لأمة معينة أو مجتمع معين، وتقوم هذه الرؤية علی مجموعة من التمثلات والرموز والصور والقصص الخاصة بتأريخ هذا المجتمع أو تلك الأمة، وهذه الرؤية المتخيلة المتشكَّلة؛ جزء من هوية الأمة أو الشعب(١)
وهنا نتحدث عن صورة الأم العراقية وحضورها في المخيال العراقي، وتمظهراتها في الأدب والفنون المتنوعة كالدراما والسينما والفن التشكيلي، إذ تقترن صورة الأم العراقية بالعباءة العراقية، والعباءة زي عراقي قديم حديث، يمتد إلی أولی الحضارات التي عرفتها البشرية، كالحضارة السومرية والبابلية والآشورية …
وتكون هذه العباءة علی شكل غطاء يبدأ من الرأس الی حافة القدم، يلف الجسم كله، مع وجود الردن لإخراج الذراعين(٢) والعباءات بمعظم أشكالها وأنواعها من الأزياء العربية المعروفة؛ لكنها وبحسب ما نقلته المصادر كانت تبدأ من الكتف(٣).
والعباءة العراقية تختلف عن الجلباب، فالجِلْبَاب: ثوب أوسع من الخمار دون الرداء تغطي به المرأة رأسها وصدرها.
وقيل: هو ما تغطي به المرأة الثياب من فوق كالملحفة.
وفي التنزيل: ((…يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ…))
وقيل: الجلباب هو الإزار الذى يُشتمل به فيجلِّل جميع الجسد،والجلَّابية: كلمة عامية شائعة في مصر وبعض البلدان العربيةوهي: ثوب طويل ذو كمين، ألوانه متعددة، يتخذ من القطن أو الصوف أو الحرير أو غيره، وفصيحها: الجلباب أو الجلبَّاب؛ وهو القميص أو ثوب واسع للمرأة وجمعه: جلابيب (٥).
ويقترن الحجاب بالعفة والحياء في حضارات العراق القديمة، إذ ترتديه المرأة المتزوجة المحصنة، وتُعاقب المرأة المنحرفة بخلع الحجاب وكشف رأسها وسكب الزفت عليه(٦) وعلی أية حال يبدو أن الاختلاف في الأزياء مرتبط باختلاف البيئة والأجواء، فبلاد ما بين النهرين عُرفت بالزراعة والاستقرار وعدم الحاجة الی التنقل من مكان الی آخر، بينما أرض نجد والحجاز، كانت بيئة غير مستقرة، ويحتاج سكانها الی التنقل الدائم بحثا عن الماء والكلأ؛ لهذا فالجلباب وغطاء الرأس المنفصل عنه كان الأنسب للنساء في تلك البيئة.
ـ الأم العراقية والعباءة:
لايمكن للذاكرة الجمعية العراقية إلا أن تتخيل الأم العراقية وهي ترتدي العباءة السوداء، فهي الزي الأكثر انتشارا في الواقع، والأكثر رسوخا في الذاكرة، لهذا نجد “غائب طعمة فرمان” في روايته النخلة والجيران يصور شخصياته النسوية بالعباءة العراقية السوداء، فسليمة الخبازة تلبس العباءة وتلف نفسها بها، وجيرانها من النساء يلبسن العباءة، فنجده يقول:
“زحفت نحو العباءة السوداء التي تركتها سهواً وتناولت درهماً من بين طياتها ، ورمته عليه . فانحنى على الأرض يلتقطه .”٧
ويقول:
“فجلس، وبركت هي على بعد خطوات منه، ملفوفة بعباءتها الصوفية:وبعد أن استقر في جلسته سألها.. “٨
وفي موضع آخر يقول:
“وفتحية بائعة الباقلاء تفرش الأرض وحولها زبائنها. وعلى مقربة من الطولة حلقة من العباءات . وقفت سليمة قرب بابها قليلا. وشعرت بالخجل والاضطراب
وكأنها تسير في الشارع بلا عباءة”٩
ونجد صورة الأم العراقية والمرأة العراقية مقترنة بالعباءة في الدراما أيضا، ففي مسلسل النسر وعيون المدينة، ترتدي نظيرة خاتون وخديجة خاتون العباءة١٠، وكذلك گمرة أم الباگله، وأم عطية١١ وحتی حسنية خاتون بشخصيتها غير المنضبطة، أيضا كانت تلبس العباءة حين تخرج(١٢)
أما أشهر صورة لاقتران الأم العراقية بالعباءة فظهرت في نصب(الأم أو الأمومة) للفنان خالد الرحال، الذي أنشأه في عام 1961 في بغداد، وسميت الحديقة علی اسمه( حديقة الأم) وبعد مجيء حكومة البعث؛ تحول اسم الحديقة الی حديقة” الأمة” كما تحول نشاط الفنان خالد الرحال لخدمة البعث ومنظومته وأفكاره ومغامراته الحربية!١٣
وتظهر في نصب الأم، الأم وهي ترتدي العباءة، وتقود بيدها طفلها، الذي يقف خلفها ملتصقا بها، وقد رفع الهواء عباءتها فأمسكتها بيدها الأخری، في دلالة علی تحملها المشاق في سبيل تربية أبنائها.
ولهذا النصب قصة، إذ كان ملهما للشاعر “كريم العراقي” ليكتب نصا عن الأم، غنی النص “سعدون جابر”
في أغنيته الشهيرة المؤثرة”أم الوفه” إذ أصبحت نشيد الأمومة ولا يسمعها أحد إلا وتسيل دموعه حزنا ومحبة وشوقا وعرفانا للأم العراقية الصابرة.
ولعل أعظم الصور الواقعية التي جسدت عنفوان الأم العراقية وهي مقترنة بالعباءة العراقية، صورة الأم التي اُستشهد ابنها واستقبلت جثمان ولدها الشهيد بالتحية العسكرية،
وهي والدة الشهيد حسن حيدر العلياوي الذي استشهد في سامراء بتأريخ 2019/5/28 ، والتقطت صورتها وهي تلقي التحية أثناء التشييع في مدينةالصدر .
بعد كل هذا تأتي قناة فضائية وتريد أن تمحو ذاكرة أمة بأكملها، وتصور العباءة علی أنها زي دخيل، وتختلق قضية طائفية قومية عنصرية سياسية، زاعمة أن العباءة العراقية زي إيراني يراد فرضه علی النساء!
وهذه الكذبة والتعدي والتجاوز والاستهداف يتطلب موقفا قانونيا لمحاسبة هذه القناة عل ما قامت به، وإلا فالاستهداف سيستمر مادام الردع غائبا.
ــــــــــــــــ
١- ينظر: تشارلز تايلور،التخيلات الاجتماعية الحديثة2003/ فيليب فاندنبروك:
https://philippevandenbroeck.medium.com/
٢- الرُّدْن: الرُّدْن بالضم: أصل الكم، يقال: قميص واسع الردن، وعند ابن سيده: الرُّدْن مقدَّم كم القميص والجمع أردان وأردنة ،المعجم العربي لأسماء الملابس، رجب عبد الجواد إبراهيم:139
٣- ينظر: المصدر السابق:316- 318
٤- سورة الأحزاب، الآية 59
٥ـ المعجم العربي لأسماء الملابس، رجب عبد الجواد إبراهيم:144
٦- ينظر:
WOMEN IN THE ANCIENT NEAR EAST,Marten Stol: 35-37
٧- النخلة والجيران، غائب طعمة فرمان: ١٩
٨- المصدر نفسه: ٢١
٩- المصدر نفسه:٣٥
١٠- النسر وعيون المدينية، الحلقة١١
١١- النسر وعيون المدينة، الحلقة :٩
١٢- النسر وعيون المدينة، الحلقة:٤
١٣- خالد الرحال:
https://ar.m.wikipedia.org/wiki/%D8%AE%D8%A7%D9%84%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AD%D8%A7%D9%84