إسرائيل تتجاوز النووي: خرائط الدم من طهران إلى الملاجئ

بقلم _ د. طالب محمد كريم

 

منذ لحظة إعلان قيام إسرائيل قبل أكثر من أربعة وسبعين عاماً، بقي هذا الكيان يعيش فوق فوهة بركان لم يخمد يوماً، رغم كل ما قيل عن الأمن والردع والتفوق العسكري. فلم تستطع تل أبيب، منذ أول حجر رُمي باتجاهها في شوارع فلسطين المحتلة، أن تنعم بلحظة استقرار كاملة دون صافرات الإنذار وحقائب الهروب إلى الملاجئ. ومع تقدم السنوات لم تنجح كل الترسانة النووية ولا اتفاقيات الردع ولا حلفاء الغرب في تحويل تلك الأرض إلى وطن آمن كما أراد مؤسسو المشروع الصهيوني.

 

إن علاقة إسرائيل بالملف النووي الإيراني ليست إلا غطاءً سهل التسويق للداخل الإسرائيلي ولحلفائها الغربيين لتبرير ضربات عسكرية وانتهاكات متكررة للسيادة الإيرانية ولسيادة جوارها. فمنذ أن بدأت إيران في بناء برنامج نووي مدني ضمن إطار اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية، تخضع منشآتها لتفتيش دوري من الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ورغم ذلك، دأبت إسرائيل على تصوير هذا البرنامج كأنه تهديد وجودي، في وقت لم توقّع هي نفسها على معاهدة حظر الانتشار ولم تسمح يوماً لأي مفتش أممي بدخول مفاعل ديمونا أو غيره من مواقعها النووية السرية. وهكذا بقيت الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تملك ترسانة نووية كاملة دون أي التزام رقابي دولي، لكنها في الوقت نفسه تُعطي لنفسها الحق في خرق سيادة جيرانها بحجة حماية أمنها النووي من خطر مزعوم.

 

من الذي منح إسرائيل شرعية تقرير توقيت ضرب إيران أو استباحة سمائها وأرضها؟ لا معاهدة ولا قرار أممي يعطي تل أبيب هذا التفويض، بل إن القانون الدولي ينص بوضوح على أن أي عدوان عسكري أحادي الجانب خارج تفويض مجلس الأمن يُعد خرقاً صارخاً للسيادة وللقانون الإنساني. ومع ذلك، تُصاغ البيانات الغربية بعد كل غارة إسرائيلية بلغة مائعة تساوي بين الضحية والجلاد، وتبرر العدوان تحت شعار (حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها) حتى لو كان الدفاع المزعوم هو قصف مختبرات مدنية أو اغتيال علماء في شوارع طهران.

 

إن السؤال الجوهري هنا: هل المشكلة حقاً في أجهزة الطرد المركزي الإيرانية، أم أن الأمر أعمق بكثير من شحنة يورانيوم مخصب؟ الحقيقة أن المسألة تتعلق بالهيمنة الإقليمية. فمنذ نجاح الثورة الإيرانية عام 1979، بدأ توازن القوى في الشرق الأوسط يتغير. إسرائيل تخشى من إيران ليس لأنها تخصب اليورانيوم، بل لأنها تمثل نموذجاً لعقيدة سياسية وجغرافية ترفض منطق الإملاء الغربي وتبني شبكات نفوذ عابر للحدود من لبنان إلى اليمن، وتجرّ خلفها جمهوراً عقائدياً يرى في المشروع الصهيوني جسماً غريباً في قلب المنطقة.

 

التهويل الإسرائيلي ليس وليد اليوم. لكنه اليوم دخل طوراً جديداً بعد زلزال السابع من أكتوبر، وما تلاه من اغتيال السيد حسن نصرالله وكبار القادة الميدانيين في حلقات متوالية من التصعيد. إسرائيل تجاوزت قصة المنشآت النووية: إنها تحاول إعادة رسم الخريطة الإقليمية بمزيج من القنابل والسياسة. تضرب إيران لأنها آخر عقدة استراتيجية في وجه مشروع التمدد الإسرائيلي، ولأن انهيار بعض جبهات المقاومة بعد اغتيالات مركزة قد يفتح شهية تل أبيب على استكمال حلقات هيمنة لم تستطع أن تفرضها بالحروب الكلاسيكية ولا بالتطبيع وحده.

 

وسط هذا كله، ينبغي أن نتوقف أمام حقيقة ساطعة: أربعة وسبعون عاماً من عمر الدولة العبرية لم تحسم معركة الاستقرار. لم يشعر الإسرائيليون في يومٍ واحد أن صواريخ المقاومة توقفت عن طرق أسقف ملاجئهم. واليوم، يدخلون في اختبار جديد أمام دولةٍ مثل إيران، دولة ليست حركةً مسلحة بحجارةٍ ومقلاع، بل قوة إقليمية ذات عمق تاريخي يتجاوز خمسة آلاف عام، ولها حلفاء وجغرافيا معقدة وأسلحة نوعية وشعب مدرك أن المعركة طويلة الأمد.

 

إن الهجوم الأخير ليس نهاية المشهد، بل هو بداية مرحلة تُصاغ فيها التوازنات بالقوة وبالدم، ويعاد فيها تعريف من يملك اليد العليا في شرق المتوسط والخليج وما وراءهما. إسرائيل باندفاعها الأخير تكتب فصلاً لن يكون سهلاً في سجلها الأمني، وتدفع المنطقة إلى سؤال مصيري: إلى متى يمكن أن تظل قنبلة الشرق الأوسط مؤجلة؟ وكيف سيبدو شكل الاستقرار في خريطة تُعاد هندستها بالصواريخ والرماد؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى