كربلاء اليمن.. حيث تتجدد عاشوراء كل يوم

بقلم _ بشير ربيع الصانع

لم تكن كربلاء مجرّد واقعة طواها الزمن، بل كانت بداية، لا نهاية. وكانت بذرةً، لا حصادًا. ولهذا، فإن كربلاء لا تُختزل في العاشر من المحرم، بل تعيش في كل زمانٍ ومكان يعلو فيه صوت الحقّ ويُستنهض فيه الموقف. ولعلّ من أشدّ المواضع صدًى لنداء الحسين هو اليمن، هذه الأرض التي لا تزال ترضع أبناءها من ثدي الكرامة، وتُرضعهم الشجاعة كما تُرضعهم اللبن.

في اليمن، لم تكن عاشوراء ذكرى تُحيا بالبكاء ، بل مدرسة تُعاد صياغتها بالدم والتضحية والإصرار على تحرير الإنسان من قيود الذلّ والاستعباد. وعاشوراء اليمن لها نكهة خاصة، لأنها لم تُدرس في الكتب، بل كُتبت في الميدان، على جبهة الصمود، على جدران السجون، في جثامين الشهداء، في صوت الشعب الذي قال لا، ولم يرجع.

وهنا، كان للشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي، رضوان الله عليه، دورٌ محوري، بل دورٌ عاشورائي بامتياز. لقد قرأ كربلاء لا كحدثٍ ماضٍ، بل كمشروع ممتد، ووعى الإمام الحسين لا كقصة بطولة، بل كمنهج مواجهة. رأى الظلم الذي هيمن على الأمة، وسمع هدير الصمت العربي المخزي، فأطلق صرخته المدوية في وجه الطغيان: “الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام”.

كانت تلك الصرخة عاشورائية، لأن صاحبها، كما الحسين، لم يخفْ، لم يتراجع، ولم يُداهن. بل تحمّل في سبيلها الحصار والتشويه والملاحقة، ثم ختمها بدمه الزكي في جبال مرّان، ليخطّ على صخرها، كما خطّ الحسين على تراب كربلاء: أنّ الدم لا يُهزم إذا كان لله، وأنّ الصدق لا يُقتل إذا نُطق من الأعماق.

ولم يكن الشعب اليمني بعيدًا عن هذه التضحيات، بل كان هو الامتداد الطبيعي لذلك المشروع الحسيني، المشروع القرآني، الذي لا يعرف الركوع إلا لله، ولا يضع يده في يد الطغاة، مهما ادّعوا، ومهما تلثّموا بوجه الإسلام. إنه شعبٌ قرأ عاشوراء في صوت زينب، وفهم كربلاء من شهقة سكينة، وواصل المعركة من حيث وقف الحسين.

لقد حوصر الشعب اليمني كما حوصر الإمام الحسين. مُنع عنه الغذاء والدواء، ضُرب من الجوّ، وقُطع عنه العالم، وتكالبت عليه جيوش بني أمية العصر. لكنّه لم ينكسر، بل قام ونفض عن نفسه غبار الجراح، ووقف، كما وقف الحسين، وحمل قضيته في وجه الطغيان. لم يقل: “أين الناصر؟” بل كان هو الناصر. لم ينتظر الفرج، بل كان هو الفرج للضعفاء والمظلومين.

في كل قرية يمنية، ثمّة كربلاء، وفي كل شهيد، ثمّة حسين. في وجه الأم الثكلى صبر زينب، وفي دماء الأبناء المذبوحين وضوح الرسالة: أنّ اليمن اختار الحسين، وأنه لا يزال يرددها عاليًا: هيهات منّا الذلّة.

ولذلك، فإن عاشوراء في اليمن ليست مناسبة، بل هوية. ليست طقسًا، بل التزامًا. نحن لا نعيش كربلاء بالتاريخ، بل نعيشها بالقرار، وبالموقف، وبالدم الذي لا يزال يسيل دفاعًا عن المستضعفين في زمن كثر فيه المستكبرون.

لقد أعاد السيد حسين بدر الدين الحوثي، ثم القائد العلم السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، إحياء ذلك الوهج الحسيني، ليس بترداد الشعارات فقط، بل بصناعة وعيٍ ثائر، وشعبٍ قرآني، وتيارٍ لا ينكسر، حتى لو اصطفّت عليه قوى الأرض كلها. فقد علّمنا الحسين أن النصر ليس بكثرة العدد، بل بصفاء الموقف، ونقاوة النية، وصدق التوكل.

وها هو الشعب اليمني، اليوم، يعيد إنتاج ملحمة كربلاء في نسخته الخالدة، حيث تتجلى في موقفه الصادق إلى جانب غزة، وفي وقوفه الشريف مع مظلوميها، وفي نصرته للدم الفلسطيني الذي يُسفك تحت سمع العالم وبصره. ليست كربلاء اليوم ساحةً من تراب العراق، بل حيٌّ مدمَّر في غزة، وطفلٌ يئن تحت الركام، وأمٌّ تصرخ في ليلٍ بلا كهرباء ولا ماء. وهناك، في قلب هذا الجرح المفتوح، يقف اليمنيّ الحسيني، يقول بملء صوته:
لن نبيع الحسين ليزيد العصر، ولن نكون أتباع ابن زياد مهما تلونت صوره الإعلامية. سنبقى حيث أرادنا الله، مع الحسين في كل معركة، ضد يزيد في كل زمان.
فمن وقف مع غزة، فقد وقف مع كربلاء، ومن نصر فلسطين، فقد نصر الحسين، ولم يواكب عاشوراء بالبكاء، بل بالموقف، وبالوعي، وبالدم في قلب الميدان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى