اليومُ السادسُ من محرّم الحرام سنة 61هـ: محطّاتٌ في مسيرةِ كربلاء.
بقلم _ طوفان الجنيد.
لقد شكّلَ اليومُ السادسُ من محرّم الحرام سنة 61 للهجرة، منعطفًا حاسمًا في مسيرةِ واقعةِ كربلاء، حيث بدأت ملامحُ المأساةِ تتضحُ أكثر فأكثر. فبعد وصول الإمام الحسين (عليه السلام) إلى كربلاء في الثاني من محرّم، وحصار جيش عمر بن سعد له في الثالث من الشهر، جاء اليومُ السادسُ ليشهد تطوراتٍ خطيرة أثّرت على مجرياتِ الأحداثِ اللاحقة.
في هذا اليوم، تكاملت قواتُ جيشِ عمر بن سعد بشكلٍ كامل، كما شهد محاولةً جادّةً لنصرةِ الإمام الحسين (عليه السلام) من قبل حبيب بن مظاهر الأسدي، بالإضافة إلى بدايةِ تطويقِ مصادرِ الماء.
تكاملُ الجيوشِ الأمويةِ في كربلاء:
في اليومِ السادس من محرّم، اكتملت تجمعاتُ الجيش الأموي في كربلاء بشكلٍ نهائي، حيثُ وصل عددهم – حسبَ معظم الروايات التاريخية – إلى حوالي ثلاثين ألف مقاتل.
وكان هذا التكاملُ العسكري نتيجةً للأوامرِ الصارمة التي أصدرها عبيد الله بن زياد، والي الكوفة، الذي كان حريصًا على إحكام الحصار حول الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه، الذين لم يتجاوز عددهم 72 أو 73 شخصًا.
يُروى في هذا اليوم أن ابن زياد أرسل تعزيزاتٍ عسكرية متتالية إلى كربلاء؛ فقد جاء في بعض الروايات أنه أرسل شمر بن ذي الجوشن بأربعة آلاف مقاتل، ويزيد بن ركاب الكلبي بألفي مقاتل، والحصين بن نمير السكوني بأربعة آلاف، وغيرهم من القادة بعشرات الآلاف من الجنود. وكان الهدف من هذا الحشد الضخم هو منعُ أيّ محاولةٍ لنجدة الإمام الحسين (عليه السلام)، وإحكامُ الخناق عليه وعلى أصحابه.
محاولةُ حبيب بن مظاهر لنُصرةِ الإمام الحسين
من أبرز أحداث هذا اليوم محاولةُ الصحابي الجليل حبيب بن مظاهر الأسدي (رضوان الله عليه) استنصار قبيلة بني أسد لنُصرة الإمام الحسين (عليه السلام). فبعد أن لاحظ حبيب كثافةَ الجيش الأموي وتصميمَه على القتال، استأذن الإمام الحسين (عليه السلام) قائلاً:
“يا بن رسول الله، ههنا حيٌّ من بني أسدٍ بالقربِ منا، أتأذن لي في المصير إليهم فأدعوهم إلى نصرتك؟ فعسى الله أن يدفع بهم عنك.”
فأذن له الإمام (عليه السلام)، فانسلّ ليلاً إلى بني أسد، واجتمع بهم قائلاً:
“إني قد أتيتكم بخيرِ ما أتى به وافدٌ إلى قومه، أتيتكم أدعوكم إلى نصرة ابن بنت نبيكم.”
فاستجاب له رجلٌ اسمه عبد الله بن بشر قائلاً:
“أنا أوّل من يُجيب.”
ثم تبادر إليه رجالٌ من القبيلة حتى بلغ عددهم نحو تسعين رجلًا.
إلّا أنّ هذه المحاولة تعرضت للفشل عندما علم عمر بن سعد بالأمر من خلال مخبرٍ أرسله بنو أسد أنفسهم! فأرسل ابن سعد الأزرق الشامي مع خمسمئة فارس لاعتراض بني أسد ومنعهم من الوصول إلى معسكر الإمام. وعندما اشتبك الفريقان، أدرك بنو أسد عدم قدرتهم على مواجهة القوات الأموية، فتراجعوا إلى حيّهم، بينما عاد حبيب بن مظاهر وحيدًا إلى الإمام يخبره بفشل المحاولة.
بدايةُ حصارِ الماء:
تشير بعض الروايات إلى أن اليوم السادس من محرّم شهد المحاولةَ الأولى لقطعِ الماء عن معسكر الإمام الحسين (عليه السلام). فبناءً على أوامر عمر بن سعد، قام شبث بن ربعي برفقة ثلاثة آلاف جندي بتطويق نهر الفرات؛ لمنع وصول الماء إلى الإمام وأهل بيته وأصحابه. وكان الهدف من هذا الحصار المائي هو إضعافُ معنوياتِ أصحاب الحسين (عليه السلام)، وإجبارهم على الاستسلام.
الحوارُ بين الإمام الحسين وعمر بن سعد
تذكر بعض المصادر أن اليوم السادس من محرّم شهد أيضًا حوارًا مهمًّا بين الإمام الحسين (عليه السلام) وعمر بن سعد، حيثُ حاول الإمامُ ثنيَهُ عن المضيِّ في طريق العداء، وقال له:
“يا بن سعد، أتقاتلني وأنا ابنُ مَن قد علمت؟!
فدع هؤلاء القوم، وكن معي؛ فهو خيرٌ لك في دينك ودنياك.”
لكنّ عمر بن سعد أبدى مجموعةً من الأعذار الواهية: فذكر خوفه من هدمِ داره، فردّ عليه الإمام:
“أنا أخلُف عليك خيرًا منها.”
ثم ذكر خوفه على ضيعته، فقال له الإمام:
“أنا أخلف عليك خيرًا منها.”
وأخيرًا ذكر خوفه على عياله، فسكت عنه الإمام.
وانتهى الحوار بانصراف عمر بن سعد، بينما تبعه الإمام بنظره قائلاً:
“ما لك! قتلك الله على فراشك عاجلًا، ولا غفر الله لك يومَ حشرك، والله إني لأرجو ألّا تأكل من بُرِّ العراق إلّا يسيرًا.”
فردّ عمر بن سعد باستخفاف:
“في الشعير كفايةٌ عن البرّ.”
وقد تحقّقت دعوة الإمام الحسين (عليه السلام)، إذ قُتل عمر بن سعد لاحقًا على يد المختار الثقفي في التاسع من ربيع الأول سنة 66 هـ.
دروسٌ من أحداثِ اليوم السادس
١_ إصرارُ الإمام على الحق:
رغم معرفته بعدم جدوى معظم محاولات النصرة، كان الإمام الحسين (عليه السلام) يفتح باب الأمل، حتى في أحلك الظروف.
2- بروزُ الأبطال:
مثل الصحابي حبيب بن مظاهر، الذي لم ييأس من محاولة تغيير مجرى المعركة، حتى وهو يعلم ثقلَ الكفّة المعادية.
3-سقوطُ بعض النفوس:
كما حدث مع بني أسد، الذين تراجعوا عند أول عقبة، فكانت خيبتهم درسًا في التخاذل.
4- قسوةُ النظام الأموي:
إذ لم يترك وسيلةً إلا واستعملها في الضغط على الإمام، بما في ذلك سلاح “الماء” الذي يُحرَّم حتى على الحيوانات في الحرب.
ختامًا:
لقد شكّل اليومُ السادسُ من محرّم تمهيدًا للمأساةِ الكبرى التي ستقع في العاشر منه. فبعد فشل محاولةِ النصرة، وتكاملِ الجيوش الأموية، وبدء حصار الماء، أصبح الطريق ممهّدًا لواقعةِ كربلاء.
لكن هذا اليومَ أيضًا كشف عن عُمقِ المبدأ الذي نهض لأجله الإمام الحسين (عليه السلام)، وعن بطولةِ القلةِ الذين اصطفّوا معه رغم علمهم بالمصير.
لقد أصبح اليوم السادس من محرّم جزءًا خالدًا من سجلِّ التضحية والفداء في التاريخ الإسلامي، ودرسًا خالدًا في الصمودِ والمروءة، تتناقله الأجيال جيلاً بعد جيل.