[ هل الشيعة هم مَن قتل الحسين ؟! هل الكوفة كانت قد خذلت وخانت ؟! ]
بقلم _ الشيخ حسن عطوان
هذه مقالة كتبتها قبل سنوات ، أعيد نشرها اليوم – بحسب طلب بعض الأخوة – لوجود إشكالية في قصيدة قُرئت بالأمس ، فهِمَ البعض منها أنّها تُسيء للكوفة العلوية اليوم .
وأظن أنَّ وراء ذلك مَن لا يروق لهم أنْ يروا هذا الإجتماع الشيعي ؛ فهم يستغلون أية كلمة أو ثغرة لبثّ الفرقة بيننا .
أحبتي ..
أُعيد نشر هذه المقالة لأبين أنَّ كوفة اليوم ليست ككوفة الأمس ..
لنتأمل ، ثم نعود لحزننا العميق ، فهذا اليوم هو يوم حزن أحزاننا .
وما حصل في هذا اليوم من جرائم يجب أنْ يوحدنا ، فلا نصغي لمَن يتمظهر بالحرص علينا ، وهدفه الأصل هو إشغالنا ، وبث الفرقة بين شبابنا ] .
المقالة الأصل :
يحاول بعض المرضى نشر شبهة مفادها :
أنَّ مَن قتل الحسين ( عليه السلام ) هم نفس الشيعة الذين يبكون عليه .
فبعد أنْ أرسلوا له رسائل تدعوه للقدوم ، وأرسل لهم رسوله مسلم بن عقيل فبايعوه ، ثم خذلوه وتركوه يواجه مصيره بالقتل على يد عبيد الله بن زياد !!
ومن ثم خذلوا الإمام الحسين نفسه ، بل وشاركوا بقتله !!
🖋 الجواب :
لابد من الإشارة بدءاً الى أنَّ هذه الدعوى إنّما هي دعوى متأخرة حاولت ( الوهابية ) إشاعتها وترسيخها بقوة في العصور الأخيرة ، ولم تصدر من أيٍّ من مؤرخي العامة من المتقدمين ، مع أنَّ فيهم مَن لا يقل حقداً ولؤماً عن معاصرينا .
والقارئ للتاريخ لا يحتاج إلّا الى قليل من الإنصاف ليدرك أنَّ قتلة الحسين ( عليه السلام ) لم يكونوا من الشيعة .
وتوضيح ذلك في نقاط :
◀ أولاً :
◀ الشيعة لغة : من المشايعة ، أي المتابعة والمناصرة والموالاة .
فالشيعة بالمعنى اللغوي : هم الأتباع والأنصار .
وقد غلب هذا الإسم على أتباع علي ( عليه السلام ) حتى أختص بهم ، وأصبح إذا أُطلق ينصرف إليهم .
وبهذا المعنى اللغوي استعمل القرآن الكريم لفظة ( الشيعة ) ، كما في قوله تعالى :
( وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ ) ( 1 ) .
أي ممَن شايع النبي نوح ( عليه السلام ) وتابعه في دعوته لله سبحانه .
وكما في قوله سبحانه :
( فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) ( 2 ) .
أي ممَن شايع موسى ( عليه السلام ) على دينه من بني إسرائيل .
◀ وأمّا اصطلاحاً :
فيطلق التشيع ويُراد به أحد معنيين :
1. التشيع بالمعنى الأعم وهو حب أهل البيت ( عليهم السلام ) .
والتشيع بهذا المعنى يمكن أنْ يُوصَف به جميع المسلمين عدا مرضى القلوب من النواصب والوهابية وأتباعهم .
2. التشيع بالمعنى الأخص وهو تقديم عليٍّ على غيره ، وهكذا تقديم بقية أئمة أهل البيت على غيرهم .
وهذا المعنى هو المقصود بمصطلح الرفض ، أي : الإعتقاد بوجوب التولي والتبري ، وجوب تولي أهل بيت العصمة والتبري ممَن أبعدهم عن حقهم .
فالشيعي بهذا المعنى يُقَدّم الأئمة الأثني عشر على غيرهم ، ويرفض أية أحقية للغير في إبعادهم عن إمامتهم للأمّة .
◀ والكوفة في عهد أمير المؤمنين وإنْ كان فيها رجحان للشيعة بالمعنى الأعم اي الذين لا يبغضون أهل البيت ، لكن الشيعة بالمعنى الأخص لم يكونوا أكثرية فيها .
وبعبارة : لم يكن الشيعة في الكوفة هم الأكثرية ، نعم أكثرية الشيعة هم من أهل الكوفة .
يشهد لذلك : إنَّ بعض المصادر التاريخية نقلت أنَّ أمير المؤمنين في أول خلافته منعهم من صلاة التراويح فضجّوا واعترضوا إعتراضاً شديداً ، ونادوا ” واسُنة عمراه ” ، فتركهم .
فعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنّه قال :
( لقد أمرت الناس أنْ لا يجتمعوا في شهر رمضان إلّا في فريضة وأعلمتهم أنَّ اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممَن يقاتل معي : يا أهل الاسلام غُيّرتْ سُنّة عمر ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعاً )( 3 ) .
كتب أبن ابي الحديد :
” أنَّ عمر خرج في شهر رمضان ليلاً فرأى المصابيح في المسجد ، فقال : ما هذا ؟ فقيل له : إنَّ الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوع ، فقال : بدعة فنعمت البدعة ،
فاعترف كما ترى بأنّها بدعة ، وقد شهد الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أنَّ كل بدعة ضلالة .
وقد روي أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام لما اجتمعوا إليه بالكوفة فسألوه أنْ ينصب لهم إماماً يصلي بهم نافلة شهر رمضان ، زجرهم وعرّفهم أنَّ ذلك خلاف السنة فتركوه واجتمعوا لأنفسهم وقدموا بعضهم ، فبعث إليهم ابنه الحسن عليه السلام فدخل عليهم المسجد ومعه الدرة فلما رأوه تبادروا الأبواب وصاحوا واعمراه ” ( 4 ) .
فليس كلّ من صلّى خلف علي ( عليه السلام ) أو قاتل في جيشه لابد أنْ يكون شيعياً بالمعنى الأخص ، إذ الإمام علي كان بنظرهم الخليفة الرابع للمسلمين فيقبلونه بهذا العنوان لا بعنوان أنّه الأمام المفترض الطاعة .
وهذا لايتنافى مع مقولة الفرزدق المشهورة :
” قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية ” ،
فكون قلوبهم معه لا يدل على أنّهم كانوا شيعة بالمعنى الأخص .
بل لعل هذه المقولة بنفسها تشهد على أنَّ أكثرية أهل الكوفة كانوا لا يدينون بعقيدة التولي والتبري ، فغاية ما هناك أنّهم كانوا محبين فقط دون عقيدة تدفعهم للتضحية .
على أنَّ بعضهم كانوا من الخوارج والنواصب .
بل وفي عهد الإمام الحسين كان بعضهم معلناً لولائه لبني أمية ، يشهد لذلك : أنَّ الإمام الحسين حينما قال لهم :
( يا ويلكم أتقتلوني على سُّنة بدلتها ؟
أم على شريعة غيرتها ؟ … )
فقال له بعضهم : ” إنا نقتلك بغضاً لأبيك ” ( 5 ) .
ويشهد لذلك ايضاً كلمة لعبيد الله بن الحر الجعفي ، عندما التقى بركب الحسين في الطريق ، ودعاه الإمام لنصرته ، قال :
” أنّه إنّما دعاني من الخروج إلى الكوفة حين بلغني أنّك تريدها فرار من دمك ودماء أهل بيتك …
الى أنْ قال : والحسين ليس له ناصر بالكوفة ولا شيعة يقاتل بهم ” ( 6 ) .
وهذا شاهد واضح على عدم تشيع الكثير منهم .
◀ ثانياً :
إنَّ الكوفة آنذاك كانت شبه فارغة من خلّص أصحاب أمير المؤمنين ؛ لأنّ معاوية لمّا ألحق زياد إبن أبيه بنسبه وولّاه على الكوفة فتعقب كل مَن يدين بالولاء لعليٍّ ، فَمِن سجنٍ وقطعِ عطاء وهدم دور الى تهجير وتشريد ، الى قتل ولو على الظنّة .
والمتتبع للمصادر التاريخية التي كتبت عن أحداث ما بعد سيطرة معاوية على الكوفة يرى بوضوح أنّه لم يبق في الكوفة من الشيعة المعروفين عدداً يعتدّ به ؛ ليقال إنَّ الشيعة هم مَن قتل الإمام الحسين .
كتب أبن أبي الحديد :
” وقد روي أنَّ أبا جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام أنّه قال لبعض أصحابه :
يا فلان ما لقينا من ظلم قريش إيانا وتظاهرهم علينا وما لقى شيعتنا ومحبونا من الناس …
عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن عليه السلام فقُتلتْ شيعتنا بكل بلدة وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة وكان مَن يُذْكَر بحبنا والإنقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين عليه السلام ” .
وقال أيضاً :
” كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة أنْ برئت الذمة ممَن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون علياً ويبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة ؛ لكثرة مَن بها من شيعة علي عليه السلام ، فاستعمل عليهم زياد بن سمية وضم إليه البصرة ، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف ؛ لأنّه كان منهم أيام علي عليه السلام ، فقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون وصلبهم على جذوع النخل ، وطرّفهم وشرّدهم عن العراق ، فلم يبق بها معروف منهم .
وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق الّا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة ” .
وقال أيضاً : ” ثم كتب [ معاوية ] إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان انظروا مَن قامت عليه البينة انّه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه ، وشفع ذلك بنسخة أخرى : مَن اتهمتوه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به واهدموا داره .
فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق ولا سيما بالكوفة ، حتى إنَّ الرجل من شيعة علي عليه السلام ليأتيه من يثق به فيدخل بيته فيلقى إليه سره ويخاف من خادمه ومملوكه ولا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيَمان الغليظة ليكتمن عليه ” .
وقال : ” فلم يزل الامر كذلك حتى مات الحسن بن علي عليه السلام فازداد البلاء والفتنة فلم يبق أحد من هذا القبيل الّا وهو خائف على دمه أو طريد في الأرض ” ( 7 ) .
◀ ثالثاً :
لعل البعض يتوهّم أنَّ كل مَن كاتب الحسين كانوا من الشيعة ، وهذا ليس بصحيح جزماً ؛ فإنَّ الذين أرسلوا الرسائل للإمام ليسوا بالضرورة أنْ يكونوا شيعة بالمعنى الأخص ، بل يكفي أنْ يكونوا ممَن يعرف وضاعة يزيد ، ويحفظ للإمام أنّه سبط الرسول وأنّ صفاته ألْيَق بالخلافة ، وليس بإعتبار أنّه إمام معصوم وأنّه هو الأحق بالخلافة من أي أحد ، وإلّا فإنَّ ممَن كتب للحسين : شبث بن ربعي ، وحجار بن أبجر ، وعمرو بن الحجاج ، وأمثالهم ، ولا يمتّ هؤلاء للتشيع بالمعنى المُشار اليه بصلة .
ومثل هذا ينطبق على الذين بايعوا مسلم بن عقيل .
◀ رابعاً :
إنَّ أصحاب القرار والزعماء الذين أمروا بقتل الحسين ، وقاتلوه ، وساهموا في قتله ، هم : يزيد بن معاوية ، وعبيد الله بن زياد ، وعمر بن سعد ، وشمر بن ذي الجوشن ، وسنان بن أنس ، وقيس بن الأشعث ، وعمرو بن الحجاج الزبيدي ، وشبث بن ربعي ، والحصين بن نمير ، وحجار ابن أبجر ، وحرملة بن كاهل ، وأمثالهم .
فهل في هؤلاء مَن هو معروف بتشيعه لأهل البيت ؟؟!
◀ خامساً :
في كلامٍ للإمام الحسين في يوم عاشوراء ، قال :
( ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان إنْ لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم هذه وارجعوا إلى أحسابكم إنْ كنتم عرباً كما تزعمون ) ( 8 ) .
فالإمام هنا نسبهم الى آل أبي سفيان ،
وما كان يصح منه هذا الوصف لو كانوا من شيعته ، وشيعة أبيه وأخيه من قبله .
بل لم يجد المتتبعون في كلّ كلمات الإمام الحسين في كربلاء وخُطَبه في القوم واحتجاجاته عليهم أنّه وصفهم بأنّهم كانوا من شيعته أو من الموالين له ولأبيه .
نعم ، نقل الشيخ المفيد عن الإمام الحسين أنّه قال :
( بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد : فإنه قد أتانا خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل ، وهانئ بن عروة ، و عبد الله بن يقطر ، وقد خذلنا شيعتنا ، فمَن أحب منكم الإنصراف فلينصرف غير حرج ، ليس عليه ذمام ) ( 9 ) .
حيث أنَّ الإمام هنا عبّر ب ( شيعتنا ) ولم يقل : ( شيعة آل ابي سفيان ) أو ( أهل الكوفة ) .
وجوابه : أنَّ هذه الرواية نقلها الشيخ المفيد مرسلة ، وقد ذكرها الطبري في تاريخه ( 10 ) ، وهو يسبق الشيخ المفيد بمئة سنة تقريباً ، ولم ينقلها عن أبي مخنف ، فهي رواية عامّية لاتصلح لمقاومة ماذكرناه آنفاً وما سنذكره من قرائن .
على أنَّ نفس ناقلي خبر قتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة قالا للإمام ( عليه السلام ) :
” ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك ألّا انصرفت من مكانك هذا ، فإنّه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة ، بل نتخوف أنْ يكونوا عليك ” ( 11 ) .
◀ سادساً :
نقلتْ كثير من المصادر التاريخية أنَّ ابن زياد قد زج المئات بل قيل الآف من الشيعة في السجون ، بما في ذلك أبرز زعمائهم كسليمان بن صرد والمختار وميثم التمار وعبيـد الله الكـندي وعبيـد الله بن الحارث وعبد الأعلى الكلبي والعبّـاس الجدلي وعمارة الأزدي ، وأمثالهم .
وابن زياد بنفسه يعترف أنّه كان يسجن على الظنّة والشبهة ، اذ قام خطيباً في أهل البصرة فقال مادحاً لنفسه :
” وما تركت لكم ذا ظـنّـة أخافه عليكم إلاّ وهو في سـجنـكم ” ( 12 ) .
وعندما يكون هذا حال القيادات بين قتل وسجن وتنكيل ، فسيصعب على الأتباع إتخاذ الموقف الصائب .
◀ سابعاً :
مع كل ذلك فإنَّ العدد الأكبر من أنصار الإمام في يوم عاشوراء كان من أهل الكوفة ، فمنهم من إلتحق بالإمام في الطريق وقبل يوم العاشر كحبيب بن مظاهر ومسلم بن عوسجة وعابس الشاكري ، وبعضهم خرج مع جيش عمر بن سعد وانتقل الى معسكر الحسين في يوم العاشر ، فإنّ التاريخ وإنْ ركّز على إنتقالة الحر بن يزيد الرياحي ، لكن الحق أنّه قد انتقل في ذلك اليوم من معسكر عمر بن سعد ما يزيد عن الثلاثين رجلاً .
وبعبارة :
الذين بقوا مع الإمام الحسين الى يوم عاشوراء كانوا يزيدون عن المئة رجل بقليل وكان أغلبهم من الكوفة .
◀ مضافاً لكل ذلك ، توجد نصوص مؤكِّدة لهوية مَن أمر بقتل الإمام الحسين ومَن قتله :
كتب السيد محسن الأمين في ذلك :
” حاش لله أنْ يكون الذين قتلوه هم شيعته ، بل الذين قتلوه بعضهم أهل طمع لا يرجع إلى دين ، وبعضهم أجلاف أشرار ، وبعضهم اتبعوا رؤساءهم الذين قادهم حب الدنيا إلى قتاله ، ولم يكن فيهم من شيعته ومحبيه أحد ، أمّا شيعته المخلصون فكانوا له أنصاراً ، وما برحوا حتى قُتلوا دونه ونصروه بكل ما في جهدهم إلى آخر ساعة من حياتهم ، وكثير منهم لم يتمكن من نصره ، أو لم يكن عالماً بأنَّ الأمر سينتهي إلى ما انتهى إليه ، وبعضهم خاطر بنفسه وخرق الحصار الذي ضربه ابن زياد على الكوفة وجاء لنصره حتى قتل معه ، أمّا أنَّ أحداً من شيعته ومحبيه قاتله فذلك لم يكن ، وهل يعتقد السيد علي جلال ( 13 ) إنَّ شيعته الخلص كانت لهم كثرة مفرطة ؟ كلا ، فما زال أتباع الحق في كل زمان أقل قليل ، ويُعلم ذلك بالعيان وبقوله تعالى : ( وقليل ما هم ) ، ( وقليل من عبادي الشكور ) ، ومن ذلك تعْلم الخطأ في قوله : ثم يجددون الحزن عليه الخ ، وهذه هفوة من هذا السيد الذي أجاد في أكثر ما كتبه عن الحسين عليه السلام في كتابه المذكور ، لكنه تبع في هذا الكلام عن سلامة نية مَن يريد عيب الشيعة بكل وسيلة ويستنكر تجديد الحزن على الحسين ( عليه السلام ) في كل عام ” ( 14 ) .
وكتب الذهبي :
” كان – ويشير الى يزيد – قوياً شجاعاً ، ذا رأي وحزم ، وفطنة ، وفصاحة وله شعر جيد وكان ناصبياً ( 15 ) ، فظّاً ، غليظاً ، جلفاً ، يتناول المسكر ، ويفعل المنكر ، افتتح دولته بمقتل الشهيد الحسين ، واختتمها بواقعة الحرة ، فمقته الناس ولم يبارَك في عمره ” ( 16 ) .
ونقل ابن حجر :
” لما ولي معاوية بن يزيد صعد المنبر فقال : إنَّ هذه الخلافة حبل الله ، وإنَّ جدي معاوية نازع الأمر أهله ومَن هو أحق به منه علي بن أبي طالب ، وركب بكم ما تعلمون ، حتى أتته منيته فصار في قبره رهيناً بذنوبه ، ثم قلد أبي الأمر وكان غير أهل له ، ونازع ابن بنت رسول الله ( صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ) فقصف عمره وانبتر عقبه وصار في قبره رهيناً بذنوبه ، ثم بكى وقال : إنّ من أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه وبئس منقلبه ، وقد قتل عترة رسول الله ( صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ) ، وأباح الخمر ، وخرب الكعبة … ” ( 17 ) .
الخلاصة : إنَّ دعوى أنَّ مَن قتل الإمام الحسين هم الشيعة ، هذه الدعوى يُشم منها أنَّ الغرض تبرئة يزيد وابن زياد وابن سعد والشمر وأمثالهم من جريمة مذبحة يوم عاشوراء ، أي تبرئة المجرم وإتهام المظلومين عبر الدهور بالجريمة وتحميلهم المسؤولية ( 18 ) .
نعم ، من الواضح أنَّ الشيعة بالمعنى الأخص كانوا أكثر بكثير من الذين ناصروا الإمام في يوم عاشوراء ، فأين كانوا ؟؟
وجوابه : أنّه وبعد أن سُجن أغلب زعماء الشيعة ، وبعد تعرضهم للتهديد والتنكيل ، وبعد منْع الإمام من دخول الكوفة ، وفرْض طوق شديد عليها بالمسالح والمراصد ومنع الداخل لها والخارج ، فقد تمكن الطغاة من بعثرة قوتهم .
على أنَّ كل ذلك لا يمنع من القول أنَّ شدة بطش السلطة قد أرعب البعض فتخاذل جمع منهم .
**********
( 1 ) الصافات : 83 .
( 2 ) القصص : 15 .
( 3 ) الكليني ، محمد بن بعقوب ، ( ت : 329 هج ) ، الكافي ، ج 8 ، ص 62 – 63 ، الناشر : دار الكتب الإسلامية ، طهران .
( 4 ) المعتزلي ، أبن أبي الحديد ، ( ت : 656 هج ) ، شرح نهج البلاغة ، ج 12 ، ص 283 ، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي ، قم .
( 5 ) القندوزي الحنفي ، الشيخ سليمان بن ابراهيم ، ( ت : 1294 هج ) ، ينابيع المودة ، ج 3 ، ص 80 ، الناشر : دار الأسوة للطباعة والنشر .
( 6 ) السماوي ، الشيخ محمد بن طاهر ، ( ت : 1370 هج ) ، إبصار العين في أنصار الحسين ، ص 151 ، الناشر : مركز الدراسات الإسلامية ، ط 1 .
( 7 ) شرح نهج البلاغة ، مصدر سابق ، ج 11 ، ص 43 – 46 .
( 8 ) اللهوف في قتلى الطفوف ، مصدر سابق ، ص 71 .
( 9 ) المفيد ، الشيخ محمد بن محمد بن النعمان ، ( ت : 413 هج ) ، الإرشاد ، ج 2 ، ص 75 ، الناشر : دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت .
( 10 ) الطبري ، محمد بن جرير ، ( ت : 310 هج ) ، تاريخ الأمم والملوك ، ج 4 ، ص 300 ، الناشر : مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت .
( 11 ) الإرشاد ، مصدر سابق ، ج 2 ، ص 75 .
( 12 ) تاريخ الأمم والملوك ، مصدر سابق ، ج 4 ، ص 387 .
( 13 ) السيد الأمين يرد في ذلك على : السيد علي جلال الحسيني المصري المعاصر له ، في كلام له في مقدمة كتابه عن الإمام الحسين .
( 14 ) الأمين ، السيد محسن ، ( ت : 1371 هج ) ، أعيان الشيعة ، ج 1 ، ص 585 ، الناشر : دار التعارف للمطبوعات ، بيروت .
( 15 ) النواصب : هم المنافقون المبغضون لعليٍّ ولسائر أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، سموا بذلك لانّهم نصبوا العداء لهم .
( 16 ) الذهبي ، محمد بن أحمد بن عثمان ، ( ت : 748 هج ) ، سيَّر أعلام النبلاء ، ج 4 ، ص 37 – 38 ، الناشر : مؤسسة الرسالة ، بيروت .
( 17 ) الهيتمي ، أحمد بن محمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي ، شافعي ، ( ت : 1566 هج ) ، الصواعق المحرقة ، ج 2 ، ص 641 ، الناشر : مؤسسة الرسالة ، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1997 .
( 18 ) يشبه ذلك : ما حصل في جريمة سبايكر ، فنحن وإنْ كنّا نؤمن بتقصير القيادات العسكرية والسياسية السريعة في إيجاد الحلول لحمايتهم ، لا سيّما وهم شباب بلا تجربة ، لكن الإعلام المغرض له غرض آخر من توجيه المسؤولية لجهة أخرى ؛ وذلك لتبرئة عشيرة البو ناصر ، عشيرة الطاغية اللعين – ومَن كان معهم من عشائر تكريت – من هذه الجريمة .
وهي جريمة تكشف عن خسة ودناءة ما بعدهما خسة ودناءة ، اذ غرّروا بشباب عُزّل لا تجربة لهم مع خسة من هذا النحو ، فذبحوهم بعد خداعهم وإعطائهم الأمان .
فالقوم هم القوم .
**********
عظّم الله أجوركم .
[ حسن عطوان ]