بين تديّن طهران وتديّن إسطنبول
بقلم _ د. علي المؤمن
كتب أحد الطائفيين مقالاً يقارن فيه بين مستويات التديّن في كلٍّ من طهران وإسطنبول، وخلص إلى أن طهران مدينة لا دينية؛ أهلها لا يُصلّون ولا يصومون، وتنتشر فيها كل أنواع الموبقات، بينما إسطنبول مدينة متدينة خاشعة. وهو بذلك يريد ــ كعادته ــ المقارنة بين مآلات الحكم الشيعي الملتزم ومآلات الحكم السني العلماني، والقول بأن الشيعة (غير ملتزمين دينيًّا)، وأن السنة (ملتزمون دينيًّا). وبالتالي؛ فهو لا يعنيه التنكيل بطهران بقدر ما يعنيه التشكيك بتديّن الشيعة، شأنه شأن كل الطائفيين الذين يخاصمون إيران على خلفيات مذهبية.
وبغضّ النظر عن المصطلحات الطائفية السياسية التي استخدمها الكاتب، وحجم اللا موضوعية في توصيفه وتحليله؛ فإن ما كتبه ليس أكثر من موجة جديدة من الدعاية المعادية لمدرسة آل البيت، ولكن بأسلوب جديد غير مباشر.
وأقول إنها (دعاية)، لأني أعرف واقع المدينتين معرفة حسّية دقيقة، فمنذ العام 1992 وأنا أتردد باستمرار على إسطنبول، ولعلّي زرتها أكثر من (20) مرة حتى الآن، لأنها من المدن التي أحب جمال طبيعتها، وفرادة موقعها الجغرافي، وتناقض وجوهها، ولديّ فيها مشاركات ثقافية وصداقات كثيرة. وقد كتبتُ عنها استطلاعاً مصوراً بعنوان «إسطنبول ذات الألف وجه»، نشرته في مجلة التوحيد خلال العام 1993. كما أنني أتردد على طهران، التي تثير إعجابي بطبيعتها وعمرانها وتطورها. ولعلها تتفوق في هذا المجال على كثير من العواصم الأوروبية، فضلًا عن إعجابي بتناقض مظاهرها أيضاً.
وبالتالي؛ فإن حديثي ينطلق من معرفة دقيقة، وتحديداً من مشاهداتي في المدينتين خلال الأعوام 2023 ــ 2025.
ابتداءً، لا يمكن إنكار وجود مظاهر دينية ملموسة في إسطنبول، ووجود مظاهر تغريبية لا دينية في طهران، لكن اختزال إسطنبول في بعض المظاهر الدينية، وطهران في بعض المظاهر اللا دينية؛ يتعارض تماماً مع الواقع ومع منهج البحث العلمي. فأكبر صلاة جمعة في إسطنبول لا يتجاوز عدد المصلين فيها عشرة آلاف، وذلك في جامع السلطان أحمد وساحاته المكشوفة. وأكبر صلاة عيد لا يتجاوز عدد المشاركين فيها (100) ألف. وتُؤدّى صلوات الظهر والعصر والمغرب في جوامع إسطنبول بأعداد قليلة، فيما تبدو مهجورة في صلاة الفجر، وشبه مهجورة في صلاة العشاء. ويعمل أئمة الجماعة موظفين لدى السلطة، ولا يكون لهم دور يُذكر بعد الصلاة، حيث يخرجون مرتدين أربطة العنق والبدلات الرسمية، وينخرطون في الحياة المدنية بكل تفاصيلها.
في المقابل، لا يقل متوسط حضور صلاة الجمعة في طهران عن مليون مصلٍّ، وقد يتجاوز أحياناً ثلاثة ملايين. أما صلاة عيد الفطر الأخيرة التي أمّها السيد الخامنئي، فبلغ عدد المشاركين فيها نحو خمسة ملايين. كما أن جوامع طهران غالباً ما تكون ممتلئة، ويقوم أئمة الجماعة فيها بخدمة الناس، والاهتمام بشؤونهم، حيث يستمر عالم الدين الشيعي في أداء دوره الديني والاجتماعي داخل المسجد وخارجه وفي بيته.
لذلك؛ نجد أن الناس في إيران، كما هو حال شيعة البلدان الأخرى، يرتبطون ارتباطاً دينيّاً واجتماعيّاً وعاطفيّاً وثيقاً بعالم الدين، وهو ما تدلّ عليه مواكب تشييع علماء الدين، والشهداء، والمسؤولين في طهران، التي يشارك فيها الملايين. بينما لا يشارك في مواكب تشييع علماء الدين والمسؤولين في إسطنبول أكثر من (50) ألفاً في أفضل الحالات.
فعلى سبيل المثال، شارك في تشييع الإمام الخميني في طهران (10) ملايين شخص، يوم كان عدد سكان طهران (15) مليون نسمة. وفي جنازة الجنرال قاسم سليماني شارك خمسة ملايين، وفي جنازة رئيس الجمهورية رئيسي أربعة ملايين، وفي تشييع شهداء العدوان الإسرائيلي الأمريكي الأخير خمسة ملايين. أما تشييع نجم الدين أربكان، الذي كان استثنائيًّا في إسطنبول من حيث الحجم، ومع ذلك لم يتجاوز الحضور فيه (300) ألف شخص. وهذه الأرقام تُعدّ مؤشِّرًا على مدى التديّن والارتباط بالدين وعلمائه ومسؤولي الدولة الشيعية، الذين يرى أغلب سكان طهران أنهم يُعبّرون عن انتمائهم الديني، وهي كذلك مؤشِّر على المسافة النفسية والاجتماعية بين سكان إسطنبول والدين ورجاله.
وفي ليلة الجمعة، تجد مئات الآلاف يملؤون مساجد طهران لقراءة القرآن، ثم دعاء كميل، وفي صباح الجمعة يُتلى دعاء الندبة. أما في ليالي شهري رمضان ومحرم، فتمتلئ الجوامع والشوارع بالمصلين والمتعبدين وقارئي القرآن والمعزّين. وربما يصل مجموع المشاركين في مراسم عاشوراء في إيران، في كل عام، إلى أكثر من (60) مليون مشارك، بما يساوي ثلثي عدد سكان البلد، بينهم حوالي (10) ملايين شخص في طهران وحدها.
وهذه الأرقام المظهرية الدينية لا تعجز تركيا وحكومتها وأحزابها ومؤسساتها الدينية عن تحقيقها لو أنفقت مليارات الدولارات، وخطّطت لمائة عام، واستنفرت كل أجهزتها وأفرادها فحسب، بل تعجز أي دولة أخرى عن تحقيقها. ولو لم تكن إيران بلداً شيعيّاً، لما تمكّنت هي الأخرى من ذلك؛ لأن هذه الأرقام إفراز لمظاهر شيعية محضة، لصيقة بطبيعة النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وباختلافه الجوهري عن الأنظمة الدينية الاجتماعية الأخرى، المسلمة وغير المسلمة.
في المقابل، تجد في ليلة الجمعة وليلة الأحد في إسطنبول مهرجانات للتعري، والخلاعة، والسكارى، في الساحات والشوارع. وبحسب الإحصاءات، فإن عدد بيوت الدعارة، والنوادي الليلية، وحانات الخمور في إسطنبول، يفوق ما هو موجود في أغلب العواصم الأوروبية، فضلًا عن انتشار الحانات الخاصة بالشواذ والشاذات. وتجد في كثير من شوارع إسطنبول أعداد العاهرات أو الرجال الشواذ الذين يتعاملون مع المارة وأصحاب السيارات علنًا، وتحت أنظار الشرطة.
ولو ألقيت نظرة على شواطئ إسطنبول، وصولاً إلى سواحل بحر مرمرة والبحر الأسود، لرأيت مشاهد من الفساد الأخلاقي المناقض لتقاليد المسلمين، فضلًا عن الدين، وكأنك في شواطئ بلدان شرق آسيا غير المسلمة. والطريف أن الأحزاب الكبيرة في صراع دائم على السيطرة على النوادي الليلية والديسكوهات وإيرادات الخمور، التي تعمل بإشراف بلدية إسطنبول، نظرًا لما تدرّه من أرباح طائلة.
عُموماً؛ زرتُ معظم عواصم الدول العربية، وكثيراً من عواصم الدول الإسلامية، ولم أشاهد في أيٍّ منها ربع ما رأيته في إسطنبول من مظاهر لا دينية صادمة. وللإنصاف؛ فإن الوضع في إسطنبول الآسيوية يختلف عن الوضع في إسطنبول الأوروبية، حيث تقلّ منسوبات الفجور بشكل ملحوظ. وبالتالي؛ فإن تشبيه تديّن إسطنبول بتديّن طهران، هو (نكتة) لا أكثر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لمتابعة “كتابات علي المؤمن” الجديدة وارشيف مقالاته ومؤلفاته بنسخة (Pdf) على تلغرام: https://t.me/alialmomen64