حين يتكلم القرآن عن النصر

بقلم _ ريما فارس

في عالمٍ تتغير فيه ملامح المواجهة وتتبدل فيه خرائط الصراع، يبقى القرآن الكريم مرجعًا ثابتًا يضيء للمؤمنين طريق الفهم والعمل. فالنصر والهزيمة في ميزان القرآن ليسا عشوائيين، بل خاضعان لسنن ربانية لا تحابي أحدًا، ولا تتبدل بتبدل الزمان والمكان.

 

يقول الله تعالى: “إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم”، فالنصر ليس وعدًا مجانيًا يُمنح لمجرد الانتماء الشكلي للإسلام، بل هو ثمرة لنصرة الله: أي الالتزام بمنهجه، والعدل، والأخذ بأسباب القوة، والتوكل الحقيقي عليه. نصر الله لا يُستدرج بالشعارات، بل يُستحق بالثبات على الحق.

 

أما الهزيمة، فهي ليست دائمًا شرًا، بل كثيرًا ما تكون تربية ربانية تهدف إلى إعادة التوازن. حين وقعت هزيمة أحد، سأل الصحابة: “أنى هذا؟”، فجاء الجواب صريحًا: “قل هو من عند أنفسكم”. ليست المشكلة في قوة العدو، بل في ثغرات الذات، في ضعف النية، وفي التنازع والتفلت من الطاعة. فالهزيمة قرع جرس، وتصفية للصفوف، وتمحيص للقلوب.

 

ومن أبرز سنن النصر التي أكد عليها الوحي: وحدة الصف. “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم”. لا يمكن لأمة أن تنتصر إذا كان بأسها بينها شديد، وإذا كانت الأنا مقدّمة على المبدأ. النصر يبدأ من ترميم الداخل قبل مواجهة الخارج.

 

ويأتي الثبات كشرط حاسم في لحظات الاختبار. حين اشتد الخطب، صاح قوم موسى: “إنا لمدركون”، لكنه أجابهم بطمأنينة الواثق: “كلا إن معي ربي سيهدين”. فالثبات ليس رد فعل عابر، بل ثمرة يقين طويل. ولهذا أمر الله المؤمنين قبيل اللقاء: “إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرًا”.

 

والقرآن يبيّن بوضوح أن النصر لا يأتي فجأة، بل هو مراحل طويلة من البناء: “إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص”. ومن الصف إلى البنيان، هناك إعداد وتزكية وصبر طويل. فالنصر ليس نتيجة لحظة، بل نتيجة مسيرة.

 

فإذا أردنا نصرًا، علينا أن نبدأ بأنفسنا، وأن نعيد قراءة الأحداث بعين قرآنية لا بعين منهزمة أو مفتونة. أن نؤمن أن لله سننًا في الأرض لا تتغير، وأنه لا يُعطي النصر لأمةٍ غافلة أو متفرقة أو متعجّلة. النصر لا يُقاس باللحظة، بل بالعاقبة. وميزان الله ليس هو ميزان الناس، ولا حسابات الأرض كحسابات السماء.

 

قد تتأخر ساعة الانتصار، لكن من سار على دربها بثبات، نال شرف السير، ولو لم يُدرك لحظة التتويج. فالتمكين وعدٌ صادق، لكنه مشروط بمن يحمل الأمانة ويستحقها. ومن لم يكن في قلبه يقين بوعد الله، لن يصبر على ثقل الطريق، ولن يرى فجر النصر حين يلوح في الأفق.

 

إن الله لا يُخلف الميعاد، ولكن النصر لا يُهدى… بل يُؤخذ بالوعي، والتعب، والتقوى، والصبر الطويل.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى