اليمن: من الصمود إلى التأثير الإقليمي والعالمي
بقلم _ بشير ربيع الصانع
حين تتحدث مراكز الدراسات الغربية عن اليمنيين، فهي لا تفعل ذلك مجاملة ولا تعبيرًا عن عاطفة طارئة، بل انطلاقًا من قراءات استراتيجية دقيقة وتحليلات عميقة لموازين القوى المتحركة في المنطقة. ومن أبرز تلك المؤسسات شركة “أزور للاستشارات الاستراتيجية” البريطانية، التي وصفت في سلسلة تقارير حديثة التحول اليمني الجذري، من حالة الدفاع تحت ضغط العدوان، إلى موقع الفعل والتأثير في قلب الصراع الدولي، وخصوصًا في البحر الأحمر.
وما أوصل اليمنيين إلى هذا المستوى من القوة والنفوذ، لم يكن صدفة، ولا مجرّد ردة فعل، بل كان ثمرة تحرك جاد استشعر عظم المسؤولية الإيمانية تجاه قضايا الأمة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. فحين ربط اليمنيون معركتهم بمظلومية الأمة الكبرى، تحررت إرادتهم، وارتقت عزيمتهم، وتحوّل صمودهم إلى مشروع تحررٍ متكاملٍ يستمد بقاءه واندفاعه من إيمان راسخ وبصيرة نافذة.
لقد أشارت تقارير “أزور” إلى أن العمليات التي ينفذها اليمنيون في البحر الأحمر لم تعد تُقرأ كمجرد ردود عسكرية، بل أصبحت أفعالًا استراتيجية تعيد تشكيل أمن الملاحة الدولية، وتفرض على القوى الكبرى حسابات جديدة لم تكن في الحسبان. إنهم، بحسب التقرير، لم يعودوا مجرد طرفٍ في معادلة الصراع، بل باتوا من صُنّاع قواعد الاشتباك في واحد من أهم الممرات المائية في العالم.
ولم تكن المفاجأة الكبرى فقط في هذه العمليات، بل في الاعتراف النادر الذي تضمنه التقرير بأن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب اضطر فجأة لإعلان وقف لإطلاق النار في مايو، بعد أن اتضح له أن اليمنيين لا يُهزمون ولا يُردعون. وهذه الشهادة تمثل انعطافة تاريخية، تؤكد أن واشنطن، بكل ما تملكه من ترسانة عسكرية، فشلت في كسر إرادة هذا الشعب المؤمن بقضيته، وأن اليمنيين، بإيمانهم وصبرهم، أجبروها على التراجع، وأربكوا حساباتها على نحو غير مسبوق.
تؤكد “أزور” أن اليمنيين اليوم قوة صلبة، تعمل باستقلالية تامة، ولا تخضع لأي إملاءات خارجية، بل تبني مواقفها بوعي، وتتحرك وفق استراتيجية تتسم بالثبات والحكمة. هم لا يتحركون كرد فعل، بل يفرضون منطقهم على الواقع، ويؤثرون فعليًا في مجريات السياسة الإقليمية والدولية. وهذا الاستقلال في القرار، وهذه القدرة على الصمود، جعلت من اليمن مركز ثقل لا يمكن تجاهله.
ولعل الأهم، كما يشير التقرير، أن عدداً من المسؤولين الأمريكيين أبدوا إعجابهم بنهج اليمنيين المبتكر في تطوير الأسلحة، في ظل حصار خانق. وهذا الإعجاب ليس ثناءً فارغًا، بل اعتراف بقوة عقلية استطاعت أن توظف الإمكانات البسيطة لصناعة منظومات ردع فاعلة، تنافس أعقد التقنيات الغربية، وتغير موازين الحرب. إنها عبقرية المستضعف المؤمن بقضيته، الذي جعل من الحرمان وقودًا للإبداع، ومن العزلة حافزًا للاعتماد على الذات.
واللافت أن التقرير نفسه أشار إلى أن دور اليمنيين الاستباقي زاد من صعوبة عزلهم دبلوماسيًا، بل جعلهم طرفًا حاضرًا بقوة في كل قضايا المنطقة. هم الآن – وفق اعتراف الخبراء الغربيين – قوة تصنع القرار، لا تُستدرج إلى التبعية، ولا تتنازل عن ثوابتها، مهما اشتدت الضغوط أو تنوعت أشكال الحرب.
وبينما يتحدث العالم اليوم عن اليمنيين بإعزاز وإكبار، ويقف مندهشًا أمام صمودهم وإبداعهم، لا يزال المرتزقة في الداخل غارقين في غيّهم، تائهين في مستنقع التبعية، يكررون خطابات الخيانة، ويعيشون في غيبوبة لا تعي حجم التحولات ولا تستوعب دروس المرحلة. لم يتعلموا من سنوات الهزيمة، ولا من تبدلات المواقف الدولية، ولا من صوت الشعوب الحرة التي بدأت ترى في اليمن نموذجًا يُحتذى، لا مشكلة يجب تجاوزها.
إن ما يخشاه الغرب – كما تفيد تقارير شركة “أزور” – ليس فقط صواريخ اليمنيين ولا طائراتهم المسيّرة، بل الوعي الذي يقف خلف هذه القوة، واليقين الذي يوجّه خطواتها، والبوصلة الأخلاقية التي تحكم حركتها. هذا ما جعلهم في نظر الكثير من الحكومات الغربية و”الإسرائيلية” ثقبًا أسود، يبتلع مخططاتهم ويُفشل مشاريعهم، ويُعيد صياغة المنطقة بمعايير مغايرة.
هكذا، فإن اليمن لم يعد في خانة الضحية، بل بات في موقع القدوة والنموذج والمحرّك الفاعل للتاريخ الجديد. ومع كل ضربةٍ توجهها صنعاء في البر أو البحر، ومع كل خطاب واعٍ يصدر من قيادتها، يدرك العالم أكثر أن هذا الشعب لا يمكن تجاهله ولا تجاوزه، وأنه أصبح ركيزةً في معادلة الشرق، وصوتًا صاعدًا يعيد للأمة العربية والإسلامية اعتبارها ومكانتها.
فليسمع القاصي والداني: إن اليمن اليوم، لم يعد رقماً صغيرًا على الهامش، بل أصبح عنوانًا للكرامة، ومنبرًا للحق، وسيفًا مشرعًا في وجه الطغيان، وسيظل كذلك ما دام في الأرض حق يُغتصب، ومقدسات تُدنّس، وشعوب تُستضعف.