سرّ الأربعين

بقلم _ ريما فارس

من لم يشارك في المسير، لن يدرك حقيقة هذا السرّ العميق. فكلّ روح تنظر إلى الزيارة من زاوية مختلفة، وتتلقّاها بما يناسب حالها واستعدادها الداخلي.

كنت أراها سابقًا مجرّد ازدحام ومشقّة، وكنتُ أقول: إن ذهبت، فلن أستطيع الوصول إلى الضريح، فكيف بالمشي إليه؟ لكنّ ما خُطّ لي كان مختلفًا. دعوة غير متوقعة جاءت من شخصٍ لا أعرفه، تواصل مع ابني، وتكفّل بتكاليف الرحلة. في ذلك الوقت، كنت أُعاني ألمًا شديدًا في ركبتي بسبب تمزّق في الرباط، وكنت أستبعد تمامًا قدرتي على التحرك، فضلًا عن السير.

بمجرد وصولي إلى مطار بغداد، بدأت علامات التيسير تظهر بوضوح. التحقت بحملة، وكأن كل الأمور مُهيّأة، وكأن هناك من يرتّب التفاصيل بعناية. مشيت فقط نحو أربع ساعات، لكنها كانت كفيلة بأن تُغيّر نظرتي بالكامل. وحين حان وقت صلاة الظهر، وقفت تحت قبة الإمام الحسين عليه السلام، رغم أني كنت ممنوعة طبيًا من السجود، فإذا بي أسجد بلا ألم، بلا صعوبة. أدركت حينها أن ما قطعته من طريق، كان دواءً خفيًا، ومفتاحًا للشفاء. ومنذ تلك اللحظة، أصبحت زيارة الأربعين عشقًا لا يُحدّ، وطريقًا لا يُنسى.

وهذا العشق لا ينبع من تجربة شخصية فحسب، بل من عمق روحي ومعنوي لهذا الرقم الذي يتكرّر حضوره في النصوص الدينية والسنن الإلهية. فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام:

> “من حفظ من شيعتنا أربعين حديثًا، بعثه الله يوم القيامة فقيهًا عالمًا، فلم يعذّبه.”

 

وفي القرآن الكريم نجد حضورًا لافتًا لهذا العدد، كما في قوله تعالى:

﴿وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون﴾
﴿قال فإنها محرّمة عليهم أربعين سنةً يتيهون في الأرض فلا تأسَ على القوم الفاسقين﴾

 

ولم تخلُ الروايات من الإشارة إلى أثر الأربعين حتى في الجنائز، إذ قال الإمام الصادق عليه السلام:

“إذا مات المؤمن فشهد جنازته أربعون مؤمنًا، وقالوا: اللهم لا نعلم منه إلا خيرًا، وأنت أعلم به منا، قال الله عز وجل: قد قبلت شهادتكم، وغفرت له ما تعلمون وما لا تعلمون.”

 

وإذا تأمّلنا في العادات والتقاليد، نجد أثر الأربعين حاضراً في مراحل الحياة المختلفة؛ في النفاس يقال: “كفّي أربعينها بخير وعافية”، وفي الوفاة تُتم الأربعون، وفي المثل الشعبي يُقال: “بعد الأربعين يا ربّ تعين.”

إنه عدد يتجاوز الحساب، ليكون رمزًا لا يُستهان به، سرًّا من أسرار الله، أودعه في كتابه، وأطلع عليه من شاء من عباده. وما زيارة الأربعين إلا مرآة لهذا السر، لا يُفكُّ قيده إلا بالسير إليه، خطوة بخطوة، وقلبًا بقلب.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى