بقلم : أيوب بابو بارزاني

أنشأت بعد حرب الخليج في آذار/مارس 1991، منطقتين لحظر الطيران فوقهما، منطقة للأكراد في نيسان/أبريل 1991 ومنطقة ثانية للشيعة في آب/أغسطس 1992 جنوبا. يفصل المنطقتين، الوسط حيث بغداد العاصمة وقد تقلصت صلاحيات نظام صدام حسين الى المدن السنية البعثية. والهدف كما أعلن هو الوقف الفوري للقمع الوحشي لصدام حسين ضد الاكراد والشيعة كما نص عليه قرار مجلس الأمن رقم 688 لسنة 1991.

ونتيجة لتصلب موقف البعث الشوفيني من المطالب الكردية تم سحب جميع مؤسسات الدولة الإدارية والعسكرية من محافظات السليمانية واربيل ودهوك. وكان قادة الأحزاب الكردية قد تقاسموا النفوذ والواردات وعينهم أولاَ على المكائن والآليات والبلدوزرات والسيارات في “سدّ بيخمه” لبيعها، وتم اقامة حكومة إقليم كردستان عام 1992 لملء الفراغ الذي تسبب فيه انسحاب سلطات بغداد الإدارية، ثم أستولى قادة الاحزاب على أراضي واسعه ومدن وقصور أقطاب البعث وبنايات كمقرات لأحزابهم وعوائلهم ولايزالون يعيشون فيها وقد توسعت أملاكهم الى حدود غير مسبوقة.

اضطر الناس الى العيش في ظل الحصار الاقتصادي القاتل من قبل حكومة بغداد، وهي نفسها معرضة لعقوبات مجلس الامن. كانت الظروف المعيشية لغالبية الناس صعبة لا تطاق.

رؤساء الأحزاب الكوردية – وهم خليط غير متجانس من نزعات عائلية، عشائرية ودينية وقومية -كانوا على اعتقاد ان صدام حسين لايزال قوياَ وكانوا يتواصلون معه كثيراَ في السرّ وأقل في العلن. وتوصلوا معه لمصالحة عشائرية لطي صفحة الماضي والصمت الكامل فيما يتعلق بآلاف البارزانيين الذين أبيدوا عام 1983. وكان صدام حسين قد أعاد احياء العشائرية لحل النزاعات بين المواطنين بعد هزيمته في الكويت 1991، وكانت ثورة 14 تموز عام 1958 قد ألغتها.

القادة الكورد الذين عادوا من وراء الحدود كانوا يحملون ضغائنهم ونواياهم وثأراتهم القديمة، والفساد الذي رافقهم في أعوام الستينات والنصف الأول من السبعينات بقي متأصلاً فيهم، بل ازداد نتيجة فرض الحكومة الإيرانية بعض الضوابط عليهم بين أعوام 1975-1991 والتي تحول بينهم وممارسة السلطة المطلقة.

بين أعوام 1991-2003 وقد عادوا من ايران تقلص حجم تطلعاتهم الى مستوى بناء علاقات سرّية مع مخابرات صدام حسين والتجارة مع قصي وعدي واحتكار واردات “جمارك إبراهيم الخليل” وتسلم الأموال والسلاح من بغداد سراِ. وفي العام 1994 انفجر الصراع بينهم على المال والنفوذ الى معارك داخلية وصدام حسين يؤيد طرفا أقرب اليه ضد الطرف الآخر. ويكون سخياَ الى حدود ارسال وحدات الدبابات لنصرة داعميه وهم قادة الحزب الديمقراطي الكردستاني، في حرب الزعامات التي كانت تدور رحاها في ربوع كردستان وفي أربيل بالذات.

قُتل في هذه الحرب أكثر من 3 آلاف مقاتل ومدني، وشُرّد عشرات الآلاف.

كان رؤساء الأحزاب الكردية منذ عام 1991 والى انهيار نظام البعث عام 2003 يشكلون السلطة الفعلية في المحافظات الثلاثة، السليمانية وأربيل ودهوك. وكانت السلطة تتركّز في أيدي العوائل الحاكمة التي تملك أحزاباً وتعمل على إدامة نظام غير ديمقراطي أقرب الى نظام عشائري حيث رئيس القبيلة مطلق الصلاحيات.

وفي العام 1998، دعتهم الولايات المتحدة ليوقفوا معاركهم الداخلية، فشكّل الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني حكومتين متنافستين، وبعد سقوط نظام صدام حسين 2003، ابرم المتنفذون في قيادة الحزبين ما سمّيى بالاتفاق الاستراتيجي في العام 2007 وفي الواقع كان صفقة بين زعامتين على تقاسم السلطة والثروة، وبقي العداء القديم على مستوى الحزبين مجمداً حرصاً على حصصهم المالية. اتّفق الطرفان على صيغة مناصفة 50/50 لحكم الإقليم. وتحول “ثوريوا الأمس” الى “رجال أعمال” وثم الى عصابات مالية نشطة في الداخل والخارج،. وبرقية صادرة من وزارة الخارجية الأميركية عام 2006، نشرها موقع ويكيليكس”، مفاده أن الفساد يمثّل “أكبر مشكلة اقتصادية في كردستان”، وقدّمت تفاصيل مثيرة حول المحسوبية في الإقليم. وفي تقرير لمحطة بي بي سي في العام 2008، يشبه رجل اعمال الفساد في كردستان : ” بالفيروس قائلاً للمراسل: “إنه يقتل كردستان”.

لعل من أهم ماميّز سلوك معظم القادة الحزبيين الكرد هو اخضاع السياسة للمصالح المالية والاجهار بالحقوق القومية الكردية. والحاجة الدائمة الى “حامٍ خارجي” فكان صدام حسين هو الظهير، وبعد سقوطه لقوا بديله، السيد رجب طيب أردوغان ولايزال. ففي منتصف عام 2013، كان هناك 2656 شركة أجنبية مسجّلة من 80 بلداً في الإقليم؛ وكان نصيب تركيا منها 1226 شركة. الأمن الغذائي للإقليم أصبح بيد تركيا، فقد أهمل انماء القطاع الزراعي وإنتاج الألبان والصناعات الحرفية والأنسجة المحلية، واعتمد الناس كلية على المواد والبضائع المستوردة. ونتيجة التعامل غير النزيه مع بغداد، لعبت أنقرة دوراً أكبر وليست أربيل على قطاع الطاقة في إقليم كردستان والإيرادات ذات الصلة.

سياسياً، عزّزت العلاقة مع تركيا قبضة الحزب الديمقراطي الكردستاني على السلطة، وإلى حدّ أقل، الاتحاد الوطني الكردستاني. لم يكن هدف تركيا تحويل الإقليم الى إقليم تابع لها اقتصادياً فحسب، بل أيضاً تحقيق مكاسب سياسية من خلال تسويق الحزب الديمقراطي الكردستاني ورئيسه كنموذج سياسي بديل لحزب العمال الكردستاني، ولزعيمه عبد الله أوجلان، كذلك استخدام رئيسه كورقة ضغط على حكومة بغداد!

وعندما قضي على نظام صدام حسين عام 2003 عادت المعارضة الشيعية من الخارج – البعض منهم ذو خلفيات بعثية، تمردوا عليه فيما بعد -وقد سبقهم قادة الأحزاب الكردية بـ 12 عاماً في العودة، وقد تفننوا في ممارسة الفساد والافساد و تزوير كافة الانتخابات وبيع النفط ومشتقاته عبر الحدود بصورة لا قانونية وعبر الكواليس المظلمة ولمصلحة عدد معين من أفراد العائلة الحاكمة.

اعترف المسؤولون أنه بين عامَي 2004 و2010، حصل كل من الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني على 35 مليون دولار شهرياً من الأموال العامة لتمويل حزبيهما. ووصل إجمالي تلك المبالغ إلى حوالي 5 مليارات دولار على مدى ست سنوات، ما يمثل تقريباً 20 في المئة من الموازنة العامة سنوياً.

كما استخدم قادة الاحزاب الأموال العامة لتمويل أكثر من 400 من وسائل الإعلام الموازية والمدعومة حزبياً، ويحتل الإعلام الحزبي ووسائل الإعلام الموازية معظمَ الفضاء الإعلامي في كردستان، وتوفّر الفرص لشراء اعداد كبيرة من الصحافيين كمرتزقة مهمتهم ضخ الأكاذيب لصالح العائلة الحاكمة وتخدير الوعي الجمعي في المجتمع، وتعزّز عبادة الشخصية لبعض الزعماء، وتوفّر الدعاية المضللة لكلا الحزبين.

كانت وجهة نظر مهندس الفوضى “بول بريمر” عن النخب العربية والكردية سلبية، وهو المهندس الذي صاغ نظام ما بعد صدام حسين، يستشف مما كتبه فقدان المناعة أمام الاغراءات المالية: ” ان العمل المتراخي كان عائقاً أمام فعالية مجلس الحكم”، وعن الزعيمين الكرديين: “لم يتمكنا من الاتفاق على من يتولى المقعد الكردي منهما”. قادة الحزبين طلبا “منحاً مالية كبيرة” من الخزانة المركزية، وبهذا الصدد يذكر بريمر :” قدمنا للاكراد بعض الخيارات التي تحفظ ماء الوجه بالنسبة للمنح المالية. ” ويقول: ” القضية الوحيدة التي حلت بسرعة في مجلس الحكم هي تحديد رواتب أعضائه … توصلت الى موازنة فاحشة للمجلس ….” ويمضي بريمر ” أبلغت المجلس بأن الموازنة التي اقترحوها للخمسة والعشرين عضواً تفوق موازنة وزارة التربية التي تضم أكثر من 325000 موظف….”

يجب التنويه من أن القيادات الشيعية لم تتصرف مع نظام صدام حسين كما تصرف قادة الكورد، فلم يتنازلوا ولم يفاوضوا، أصرّوا على سقوط النظام، وعادوا من الخارج بعد الاحتلال الأمريكي للعراق. كان العداء شديداً ضد قادة الشيعة العائدون من الخارج، فأغتالوا السيد عبدالمجيد الخوئي والسيد محمد باقر الحكيم. واغتيل عبدالزهره عثمان وهو آخر رجل تولى رئاسة مجلس الحكم الانتقالي ومن حزب الدعوة.

تشكلت وزارات متعاقبة بعد مجلس الحكم الانتقالي: برآسة أياد علاوي، إبراهيم الجعفري، نوري المالكي، حيدرالعبادي والآن عادل عبدالمهدي. كان هناك تباين في أداء الأدوار، تقلص أو زيادة في حجم الفساد حسب شخصية رئيس الوزراء ومدى الالتزام بالمبادئ والظرف السياسي الداخلي والإقليمي والدولي الذي عمل ضمنه، وكانت ظروفهم صعبة للغاية. وما يأخذ على حكومات بغداد غض الطرف عن الاختلاسات وهدر المال العام من قبل القيادة الكردية وعدم الاستماع لشكاوى الشعب الكردي، مما يثير التساؤل حول احتمال تفاهم متبادل؟! وليس من شك ان هذا الموقف اللامبالي كان بمثابة الضوء الأخضر لترسيخ أسس (حكومة كليبتوكراسي) “Kleptocracy ” حكومة مؤلفة من القادة الفاسدين يسرقون ثروات شعوبهم ويحتالون على حكم القانون.

وليس من شك أن البيئة الاجتماعية التي مارس فيها قادة الاحزاب الكردية سلطتهم، كانت أكثر أماناً ولم يكن للبعثيين شعبية أو نفوذ بين عامة الشعب الكردي، كما كان الحال في مدن الوسط والجنوب من العراق. فقد أقام رئيس (حدك) علاقات تفاهم على عدة أصعدة مع نظام صدام حسين ولم يتخلى عنها الا بعد ان تهاوى نظامه، في حين ركّز البعث حقده على قادة الشيعة أينما كانوا وحاربوا قوات الاحتلال انتقاماً من خسارتهم للامتيازات التي تمتعوا بها خلال حكمهم الظالم والفاشستي.

كانت ظروف المجتمع الكردي أكثر استعدادا لتبني مؤسسات المجتمع المدني والممارسة الديمقراطية واحترام سيادة القانون، الا أن جوهر زعماء الأحزاب – وهي أحزاب مدججة بالسلاح – هم أسرى العقلية القبلية الموروثة ولطموحاتهم وغاياتهم الشخصية والعائلية ومجردين من المبادئ، والفساد المتفشي في كردستان ليس دخيلاً أو غريباً، انما هو ناجم عن الحقبة الاقطاعية الطويلة في المجتمع الكردي، حيث ( الأغا) هو مصدر السلطة، ويورثها لأولاده ولايحق مسائلته، وقد كانت سلطة الأغوات في مناطق بادينان في أعوام الخمسينات والستينات من القرن الماضي، شاهداً على نمط الحكم الخارج عن القانون، هؤلاء الأغوات ذاع صيتهم كعصابة من اللصوص في بادينان لأكثر من قرن. قادة أحزاب اليوم هم أولاد وأحفاد أولئك الأغوات، وقد تكيفوا مع الحقوق القومية للشعب الكردي للحفاظ على مصالحهم وامتيازاتهم والتي لم تعد قابلاً للاستمرار بالفكر الاقطاعي الصارخ، ومن هنا غيروا أقنعتهم وتغطوا بعباءة القومية والدولة الكردية.

أحفاد هؤلاء الأغوات اليوم هم أسياد بادينان، وكثيرون منهم كانوا مرتزقه لدى صدام حسين ومشاركين في جرائمه ضد الشعب الكردي! هؤلاء هم المستفيدون من الفساد والافساد ويقفون ضدّ أي محاولة تغيير للوضع الراهن. وفي مواجهتهم فشل الشعب الكردي في نضاله من أجل الديمقراطية وبناء أسس اقتصاد وطني متين وتشكيل جيش وجهاز أمن موحد متحرر من القيود الحزبية والعائلية، ولائه للشعب والوطن وليس لحفنة من زعماء الأحزاب وبطانتهم.

من السذاجة ان يتصور المرء ان بإمكان زعماء ما بعد بريمر ادخال إصلاحات سياسية جذرية في أسلوب الحكم و وقف الفساد لدى قادة الأحزاب وأقاربهم، وهذا ناجم عن شعورهم بهشاشة الأرضية التي يقفون عليها وعمق التناقضات بين مصالح زعماء الأحزاب، والعملية السياسية الخاضعة الى المساومات والتوافقات بين العوائل المتنفذة وكونهم لايملكون مشروعاً نهضوياَ شاملاً ورغبة في الثراء الشخصي. وكل هذا يؤدي الى موت القوانين والتحايل عليها.

الخطوة الأولى في الاتجاه الصحيح تبدأ بحوار شامل، عربا وكردا وكافة المكونات الأخرى لبناء حركة سياسية موحدة تعطى الأولوية لمكافحة الفساد في كافة أنحاء العراق بدءَ بـ “أربيل وبغداد”، وهذا ممكن شريطة أن يكون المخلصون والغيورون على مصلحة الشعب والوطن في مقدمة النخبة التي تتبنى المشروع.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here