بقلم/ ريما فرح

نحن في لبنان نعيش السواد، وهو يقترب من الأعظم، وهناك بعدُ مَن يستلهم خطابه على وقع لسان يلوك مواقف فريدة غب الطلب، ونحن نسابق أفغانستان في المرتبة الأولى إلى التعاسة.

هو ليس فنزويلا ولا الأرجنتين، وليس اليونان، إنه لبنان الذي لم يقدم العالم إلى اليوم مثيلاً مثله، لن نقصده، بتعدديته الطوائفية، ولا بخصائصه السياسية، ولا بطريقة إدارة النظام وتقاسم مغانمه، بل بنموذج انهياره العتيد المريع.

ليس شغور الرئاسة الأولى هو السبب، فلقد مر لبنان في فراغين، وبقي الوضع بخير، حتى إن الكثيرين يترحمون على ذَيْنَك الفراغين ويبكونهما. حينها صمدت القطاعات وبقيت الليرة بألف خير.

كُثُر سيحملون على هذا الكلام ومَن خلفه، وما زالوا إلى اليوم يحملون في نفوسهم الطيّبة الأمل بأن تحين لحظة نضوج “التسوية” السياسية لتتدفق الودائع والقروض والمساعدات، ويقلّع البلد.

خيراً نأمل من طيبتهم. لكن، إلى حين وصول قطار “التسوية”، لنعرض بعضاً من واقع ووقائع.

إدارة عامة بما تشكل من جهاز تنفيذي للدولة، أو ما يعرف بالقطاع العام مُضرب ومشلول. وأقسى ما فيه شلّ الوزارة وإداراتها التي تحصّل الأموال، والمقصود كل ما يدخل خزينتها العامة، ومعنى ذلك أن لا إيرادات تدخل في حين تخرج النفقات على سعر جنون الدولار الأميركي وانهيار الليرة اللبنانية.

ولا يستقيم قطاع عام إلّا في الحد المطلوب من الإصلاحات التي تُخرجه مع العاملين فيه من عنق الخناق الملتفّ برباط بتأمين الحاجة وعجز العوز.

وإذا كان بعض القطاع الخاص بدأ يتأقلم مع واقع الأزمتين المالية والاقتصادية، فإن منزلق شلل القطاع العام سيعكّر عليه النهوض الطبيعي، انطلاقاً من أنه مرتبط على نحو مقونن، إدارياً وضرائبياً وجمركياً، بالقطاع العام، وهذا ما سيؤدي إلى خلق قطاع فوضوي، ولاشرعي، ومتفلّت من كل ضوابط القانون. ولا عجب إن نشأ تحت مسمى اقتصاد أو قطاع مافياوي أسود، على غرار السوق الرائجة، التي باتت تشمل كل شيء في لبنان.

إن القطاع الخاص مجبَر لا بطل على التعاطي مع القطاع العام، لأن، في منتصف آذار الحالي، حضر إلى بيروت ممثلون عن جهات دولية مانحة، بينها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ووكالة التنمية الأميركية والاتحاد الأوروبي وسواها، وعقدوا سلسلة اجتماعات مع معنيين رسميين بقيت بعيدة عن الإعلام، خلصوا في نتيجتها إلى أن لا ثقة بلبنان لمدّه بأي مساعدة، ما لم يتم التوقيع مع صندوق النقد الدولي، وهذا الأمر دونه عوائق شتّى، يختلط فيها السياسي، على ما يبدو، بالتشريعات الإصلاحية، التي لم ينفَّذ منها شيء. وبالتالي، ذهبت في غياهب الزمن. وزاد في طين بلة مصاعب اللبنانيين تحوّل أنظار المانحين والداعمين إلى أوكرانيا، قبل أكثر من عام، ليأتيهم الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا مؤخراً، فيرحَّل ما تبقى من مخصصات متوقعة إلى هناك.

نعم، نحن محاطون بالقتمان والكتمان. لقد حاول المجتمع المدني أن يعبّئ فراغاً، وكذلك فعلت الأحزاب، عبر مساعدات خارجية من مجموعات المنظمات الأهلية غير الحكومية الدولية، ومعها بعض الدول، ففشلت فشلاً ذريعاً وكُشف أمرها أمام داعميها قبل ناسها. ونُقل، عن أحد المسؤولين المشاركين في أحد وفود البنك الدولي إلى لبنان، “أن مصلحة الأحزاب والمجتمع المدني انهيار الدولة، أو على الأقل إضعافها، لتجني جماهيرياً على حساب ضعفها وانهيارها”. ليردّ آخرون، من وجهة نظر أخرى: “أليس من مصلحة المنظمات والمؤسسات الدولية، صاحبة مهمة مساعدة الدول المتعثرة على تخطّي مشاكلها، استمرار انهيار الدول؟ وإلّا فماذا يتبقى لها من عمل إذا عمّ النمو والازدهار دول العالم“.

أياً يكن المُصيب في نظرته، فإن الدول لا تتعاطى مع قطاع خاص، وإنما من دولة لدولة، عبر حكومات. هكذا هي أعراف تنظيم المجتمعات الدولية. ولا حكومات من دون إدارة عامة، وهي القطاع الوحيد الذي يدير شؤون المواطنين بمنهجية عالمية، ويوحّد أو يساوي بين اللبنانيين في تعاطيه معهم، وينظر بعين واحدة إلى المواطنين، على عكس القطاع الخاص.

إن انهيار القطاع العام ينعكس على كل تفاصيل حياتنا اليومية: تشرد، تدمير الأُسر، بيع أعضاء بشرية، ارتفاع نسبة الجريمة، بالإضافة إلى مآسي الصحة والتربية، عدا عن خلق بيئة مواتية لنشوء جماعات التطرف والإرهاب.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here