مفهوم الفساد

بقلم // م. د. قاسم بلشان التميمي

(محور من بحث لي عن الفساد والإصلاح)

لقد انتشرت العديد من المفاهيم الجديدة في مجتمعاتنا والتي تعتبر نتيجة لسياسات وتراكمات ثقافية وفكرية وأخلاقية ومعاشية ومن أهمها ما يطلق عليه (ثقافة الفساد ) وفعلا أصبح الفساد ثقافة والتي أشاعت حالة من انعدام الأمل في كافة الإصلاحات والتدابير المعمول بها من قبل الحكومات المتعاقبة في إدارة مستقبل البلاد ، فأصبح يقال او يشاع أن المواطن فاسد والموظف فاسد والمجتمع والشعب فاسد ،وبالتالي الحكومات والسياسات فاسدة كنتيجة طبيعية لحالة الفساد التي يعيشها المجتمع.
تُعَدُّ مشكلة الفساد من المشاكل المركبة والمتعددة المكونات ، فهي مشكلة اجتماعية وأمنية واقتصادية وقانونية وأخلاقية وتربوية ، لذا لا يمكن في الواقع أن يتصدى تخصص واحد لاحتوائها أو التغلب عليها ، بل لا بد من تعاون الجميع.
ومن خلال آيات الذكر الحكيم يمكن أن نعرف خطورة الفساد يقول تعالى((وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ)(يونس:40) ، وقوله تعالى (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ)(النحل:88 )، وايضا يقول تعالى (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ)(آل عمران:62 ، 63 ).
يعرف معجم أوكسفورد الإنكليزي الفساد بانه “انحراف أو تدمير النزاهة في أداء الوظائف العامة من خلال الرشوة والمحاباة”، وقد يعنى الفساد: التلف إذا ارتبط المعنى بسلعة ما وهو لفظ شامل لكافة النواحي السلبية في الحياة.

ان الفساد ظاهرة لها جذورها التاريخية وان كان من الصعب تحديد نقطة بـدء نشـوء هـذه الظـاهرة إلا انـه يمكـن الجـزم بوجودهـا فـي سـائر المجتمعـات الإنسـانية وعلـى مـر العصـور ، ويعتقـد الـبعض إن ظهـور هـذه الظـاهرة قـد ارتـبط بوجـود الإنسـان علـى الأرض حيـث بـدأت منـذ خصومة بنـي ادم قابيل وهابيل ، بمعنى أخر منذ إن هـبط الإنسـان علـى الأرض شـرع فـي ارتكـاب تلـك السـلوكيات الفاسدة مدفوعا بعوامل متعددة ومتنوعة منها الاجتماعي ومنها الاقتصادي ومنها النفسـي ومنهـا السياسي وغير ذلك من العوامل، وان كـــان قـــد تغيـــرت بعـــض صـــوره وتطـــورت بعـــض أســـاليب ابتدائـــه عبـــر مســـيرة المجتمعـــات الإنســانية نحــو التطــور والتعقيــد الاجتمــاعي ممــا ترتــب عليــه تغيــر أســاليب وطــرق الحيــاة لــدى الإنسان ودخول التكنولوجيا الحديثة وتطور وسائل الإعلام وغيرها من العوامل .
عرف الفسـاد منـذ أقـدم العصـور وعـرف فـي مجـال الإدارة منـذ إن كلـف الحكـام والملـوك نواب عنهم يقومــــون بــــإدارة شــــؤون الدولــــة وتنظــــيم أمورهــــا الاقتصــــادية والقانونيــــة والاجتماعية، حيث عـــرف الفســـاد الإداري منـــذ عهـــد الألـــواح الســـومرية ومحاضـــرات جلســـات مجلـــس (أرك ) هـــذه المحاضرات التي تعود إلى الإلف الثالث قبل الميلاد حيث تشكلت حينها محكمة عليا تنظـر فـي قضايا استغلال النفـوذ والوظيفـة العامـة وقبـول الرشـوة وانتهـاك العدالـة ، كـذلك عـرف الفسـاد مـن خـلال تشـريعات (حمـو رابـي ) ملـك بابـل فقـد أشـار فـي المـادة السادسـة مـن تشـريعه إلـى جريمـة الرشـوة فهـي دون إي الجـرائم كـان يقتضي بفاعلهـا إن يمثـل إمـام حمـو رابـي نفسـه لكـي يقاضـيه وهذا يدل على مدى اهتمامه بمثل تلك الجرائم؛
إمــا الفســاد فــي الــدين الإســلامي فقد تمت الاشارة اليه حيــث بينــت الآيــات القرآنيــة الكريمة والأحاديــث النبويــة الشــريفة مــدى خطورة هذه الظـاهرة وأنماطهـا المختلفـة اجتماعيـة مثـل (القتـل بغيـر حـق و الزنـا والبغـاء وشـرب الخمــر والتعــرض لعــورات النــاس بالباطــل والتنــابز بالألقــاب والنميمــة والغبيــة والكبــر والغـرور وحـب الـدنيا وزينتهـا ) ؛ واقتصـادية مثـل (إنقـاص الكيـل والميـزان واخـذ الربـا واكـل أمــوال النــاس بالباطــل واكــل أمــوال اليتــامى والمقــامرة والمضــاربة واحتكــار الأقــوات والإســراف والتزوير وخيانة الأمانة ) ، ومن هنا نجد تشريحا موسعا لهذه الظاهرة والحـث الشـديد علـى الابتعاد عن تعاطيها من خلال الترهيب والترغيـب وفـي بعـض الحـالات نـص القـران الكـريم علـى عقوبة مادية رادعة تبدأ من القتل وتنتهي بالجلد اوالكفارات.
يتبين مما سبق ان الفسـاد آفـة مجتمعيـة فتاكـة وهـي قديمـة ومخضـرمة وجـدت فـي كـل العصـور، وفي كل المجتمعات ، الغنية منها والفقيرة ، المتعلمة والجاهلة ، القوية والضـعيفة ، وحتـى يومنـا هـذا، فظهورهـا واسـتمرارها مـرتبط برغبـة الإنسـان فـي الحصـول علـى مكاسـب ماديـة أو معنويـة بطرق غير مشروعة ، وان مظاهر الفساد منتشرة بصورة واضحة وكبيـرة فـي مجتمعـات العـالم الثالـث وخاصـة فـي المؤسسـات الحكوميـة بسـبب مشـاكلها الاقتصـادية والاجتماعيـة والسياسـية وتخلفهــا عــن مســيرة التقــدم.
تشير الكثير من التقارير والدراسات إلى استفحال خطر مشكلة انتشار ظاهرة الفساد في المجتمعات على الرغم من كل الإجراءات والتشديدات التي تحاول الحد من هذه الظاهرة ، وخطورة المشكلة تكمن في حجم الإهدار لكل اقتصاد ونتيجة عبر سنين عديدة ، إضافة إلى الخسائر الاجتماعية ، فضلاً عن ازدياد عدد القضايا في مجال مكافحة انتشار الفساد بشكل ملحوظ وحسب إحصائيات صادرة بذلك .
وربما لا يوجد إحصاء دقيق في أي دولة من دول العالم ، مهما كانت درجة تقدمها ، لعدد المفسدين فيها لأسباب مختلفة ومعقدة ، ومعظم البيانات الإحصائية تعتمد على ضبط الأجهزة المعينة بالفساد ومكافحة المفسدين والذين يخرقون القانون.
وبأذن الله تعالى سوف اتكلم عن الاصلاح والحد من الفساد في مقال لاحق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى