“الإمام موسى الكاظم (عليه السلام): نموذج الصبر والحلم في وجه الظلم”
بقلم// أحمد صدام الساعدي
الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، ذلك البحر الهادئ الذي أغرق الظالمين بحلمه، والصابر الذي جعل من الصبر تاجًا يضيء عتمة الأيام. وُلد بين مكة والمدينة، حيث تشرق شمس النبوة وتطيب أرض الرسالة، وتفتحت عيناه على نور العلم في كنف أبيه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، فكان امتدادًا لنهر الحكمة الذي لا ينضب. الإمام الكاظم (عليه السلام) لم يكن عالمًا فحسب، بل كان تجسيدًا حيًا لفضائل السماء على الأرض. كان يتنفس العلم كما يتنفس الهواء، وكانت حكمته مدرسةً يتعلم فيها الجاهل ويرتقي فيها العاقل. يقول: “وجدت علم الناس في أربع: أن تعرف ربك، وما صنع بك، وما أراد منك، وما يخرجك عن دينك”. في كلمات كهذه تختزل الفلسفة كلها، يضع الإمام خارطة طريق للإنسان الباحث عن الحقيقة.
لكن الكاظم (عليه السلام) لم يكن رجل العلم وحده، بل كان رجل المواقف، الحليم الذي يكظم الغيظ في أشد الأزمات، ويلين القلوب الحجرية بمحبته وحكمته. يُروى أن رجلًا من بني العباس كان يشتمه دون انقطاع، فلما علم الإمام بذلك، لم يرد عليه كما يرد الغاضبون، بل ذهب إليه في مزرعته، والتقى به بحب لم يتوقعه الرجل، ثم خاطبه قائلًا: “يا هذا، إن كنت قد أسأت إلينا، فقد عفونا عنك، وإن كنت قد أحسنت إلينا، فجزاك الله خيرًا”. تلك الكلمات هزت الرجل حتى صار من المخلصين له، وكأن قلبه الذي كان قاسيًا صار كزهرة تفتحت تحت شمس المحبة.
الإمام الكاظم (عليه السلام) لم يكن قائدًا في السلم فقط، بل كان شجاعًا في مواجهة الظلم. رغم الظلم العباسي الذي طارده، لم ينكسر ولم يتراجع عن مبادئه. حين أُلقي في السجن بأمر هارون الرشيد، كان سجنه مكانًا لتحويل الألم إلى عبادة، واليأس إلى أمل. يقول وهو في ظلمة السجن: “اللهم إنك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، وقد فعلت، فلك الحمد”. أي قلب هذا الذي يرى في القيود فرصةً للسمو وفي السجن خلوةً مع الله؟
كان الكاظم (عليه السلام) عالمًا في السياسة كما في الدين، يعرف متى يصمت ومتى يتكلم، ومتى يواجه ومتى يتريث. في زمن كان فيه الطغاة يبطشون بلا رحمة، اختار الإمام طريق الحكمة والهدوء. لم يكن ذلك ضعفًا، بل كان استراتيجية ربانية تهدف إلى حفظ الدين وإعلاء كلمة الحق. يقول لأصحابه: “كونوا زينًا لنا ولا تكونوا شينًا علينا”، وهي دعوة لأن يكون الإنسان صورة مشرقة تعكس قيم الإسلام النقية في كل زمان ومكان.
الإمام الكاظم (عليه السلام)، الذي لقب بكاظم الغيظ، لم يكن فقط رمزًا للصبر بل كان ملاذًا للناس في أزماتهم، ينشر العدل والمحبة كنسيم الربيع الذي ينعش الأرواح. كل من اقترب منه شعر وكأنه يقف أمام جبل من النور، فلا عجب أن يُذكر كأحد أئمة النور الذين لم تنطفئ أنوارهم رغم الظلم والظلام. حياته كانت رسالةً خالدةً، تقول لكل من جاء بعده إن الصبر ليس ضعفًا، والحلم ليس هوانًا، بل هما سلاح الأقوياء وميراث الأنبياء.
موسى الكاظم (عليه السلام) لم يكن إمام زمانه فحسب، بل كان إمام الإنسانية جمعاء. كان إنسانًا جعل من الحكمة أسلوبًا، ومن العدل منهجًا، ومن العبادة رسالةً. رحل بجسده لكن روحه باقية بيننا، تعلّمنا أن الحق لا يُهزم، وأن الطغاة، مهما طال ليلهم، سيزولون كما يزول السراب. فسلام على موسى الكاظم (عليه السلام) يوم وُلد ويوم استُشهد ويوم يُبعث حيًا.