نفحات قرآنية (54)..!

بقلم/ الباحث الإسلامي رياض البغدادي 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
“فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)” سورة النور.

مهم جداً أن نعلم أن الآية لا تدعو الى بناء بيوت أو رفع قواعد بنائها، بل انها تتحدث عن بيوت أمر الله وأوجب على المسلمين رفعها بدلالة لفظ (أَذِنَ) فالمساجد لله ولا تحتاج لهذا اللفظ ليعلم المسلم مأذونية التسبيح فيها،

وبذلك فلا يمكن الركون الى بساطة رأي من أدعى ان الله أراد في هذا الخطاب رفع بناء تلك البيوت التي هي المساجد،

هذا أولاً،

وثانياً لا يخفى أن الآية في سياق واحد مع آية النور التي سبقتها، والتي تتحدث عن الشجرة الطيبة، ورموز المشكاة والمصباح والزجاجة، وهي ألفاظ لا جدال في رمزيتها بين مفسري القرآن من جميع الفرق الإسلامية، كما بيّنا ذلك في النفحة القرآنية الخاصة بآية النور، الا أن الاختلاف حاصل في حقيقة ما تدل عليه تلك الرموز،

فكما هو معلوم ثمة حظر كان قد فرضه بنو أمية على نشر مناقب أهل البيت عليهم السلام، فمن الطبيعي ان لا يتجرأ أحد من علماء المسلمين على قول الحقيقة التي يعلمها علم اليقين المحدّثون والرواة أجمعين، من طبقة الصحابة والتابعين وتابعي التابعين،

وأوضح مثال على الخوف والرعب الذي كان يعيشه علماء تلك الفترة العصيبة، ما تعرض له النسائي، عندما كتب كتابًا في خصائص الامام علي عليه السلام، فقد روى الذهبي وابن خلكان والمقريزي وغيرهم “أن النسائي خرج من مصر إلى دمشق والمنحرف بها عن علي كثير،

فصنف كتاب تهذيب خصائص الإمام علي رجاء أن يهديهم الله عز وجل، فسُئِل عن فضائل معاوية فقال: أي شيء أخرّج؟!

ما أعرف له من فضيلة إلّا حديث: اللهم لا تشبع بطنه! فضربوه في الجامع الأموي على خصيتيه وداسوه حتى أُخرج من الجامع الأموي، ثمّ حُمل إلى الرملة فمات شهيدًا”.
من هنا فلا عجب من ان تفسر رموز المشكاة والمصباح والزجاجة، بأي شيء الا أهل البيت، مع ان هناك أخبارًا مستفيضة منقولة عن النبي (ص) في هذا الشأن.

ولكي يستقيم معنى رموز آية النور، جاءت هذه الآية المباركة التي أكدت اختصاصها وآية النور بأهل البيت عليهم السلام، فالبيوت التي تتحدث عنها الآية انما هي بيوت آل محمد صلى الله عليه وآله.

قولة تعالى (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ) يقتضي محذوف فإما أن يكون التقدير هو (كمشكاة فيها مصباح في بيوت أذن الله ان ترفع)،

أو يكون تقدير الكلام (توقد من شجرة مباركة اذن الله ان ترفع)

وعلى كلا التقديرين لا يخفى على المنصف اختصاص هذه الآيات المباركة بأهل البيت عليهم السلام، بدلالة الروايات المروية في كتب الفريقين والتي منها ما رواه الثعلبي في كتابه (الكشف والبيان عن تفسير القرآن) ص274 بإسناده: “عن أنس بن مالك وعن بريدة قالا: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذِه الآية: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} إلى قوله {وَالْأَبْصَارُ} فقام رجل فقال: أي بيوت هذِه يا رسول الله؟ قال: “بيوت الأنبياء”. قال: فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها لبيت علي وفاطمة؟ قال: “نعم من أفاضلها”.

وأما معنى (أَذِنَ) فهي تدل على التشريع والوجوب بدلالة قوله تعالى ” أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ” الشورى 21.

وأما المراد من قوله تعالى (أَنْ تُرْفَعَ) أي ترفع بالتعظيم والتطهير وهو ما يؤكد أنها كانت بيوتاً قبل الرفع. وقوله تعالى (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) فهو عام بالذكر لعموم اللفظ، ومن الذكر تلاوة القرآن.

وقوله تعالى “يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ” هو تنبيه الى أن التنزيه والتعظيم والعبادة إنما يُقصد بها الله تعالى وما البيوت إلا وسيلة أجازها الله تعالى أي أذن بها.

قوله تعالى (لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ) ذكر التجارة دون غيرها، ذلك لأنها أعظم مصاديق الأعمال الدنيوية التي تلهي الإنسان عن الذكر والعبادة، بدليل قوله تعالى “وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ” الجمعة ـ 11.

ربما قيل إن التجارة انما هي بيع، فما وجه تكرار ذكر البيع في الآية؟

أقول: الظاهر ان التجارة هي من مقدمات البيع، كالسفر لجلبها، والتفاوض على سعرها، وتسديد الرسوم وغير ذلك، أما البيع فهو المعاطاة، أي تبديل الحاجة بالنقد وتحصيل الأرباح. وخصت الآية الرجال، ذلك لأن الغالب على أهل التجارة هم الرجال.

وصف الله تعالى هؤلاء الرجال بالخوف والوجل (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) ذلك لعلمهم باستحالة الوصول الى ما يستحقه الله من حق عبادته.

وأما قوله تعالى (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا) تنبيها الى انه لا يصدر منهم الذنب والمعصية مطلقاً، وإلا فحط الذنوب وغفرانها أولى من الجزاء على الطاعات،

واما قوله (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) اي يزيدهم ولا يقتصر على استحقاقهم، لأنهم زادوا على الواجب عباداتٍ وخوفًا ورجاءً.

والله العالم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى